عمليات الاستنباط في عناصر عامّةٍ لا يمكن استخراج الحكم الشرعيّ بدونها، وكان ذلك إيذاناً بمولد علم الاصول، واتّجاه الذهنية الفقهية اتجاهاً اصولياً، فانفصل علم الاصول عن علم الفقه في البحث والتصنيف، وأخذ يتّسع ويثرى تدريجاً من خلال نموِّ الفكر الاصوليِّ من ناحية، وتبعاً لتوسّع البحث الفقهيِّ من ناحيةٍ اخرى؛ لأنّ اتّساع نطاق التطبيق الفقهيّ كان يلفت أنظار الممارِسين إلى مشاكل جديدة، فتوضع للمشاكل حلولها المناسبة، وتتَّخذ الحلول صورة العناصر المشتركة في علم الاصول.
وكلّما بَعُد الفقيه عن عصر النصّ تعدّدت جوانب الغموض في فهم الحكم من مداركه الشرعية، وتنوّعت الفجوات في عملية الاستنباط نتيجةً للبُعد الزمني، فيحسّ أكثر فأكثر بالحاجة إلى تحديد قواعد عامّةٍ يعالج بها جوانب الغموض ويملأ بها تلك الفجوات، وبهذا كانت الحاجة إلى علم الاصول تأريخية، بمعنى أ نّها تشتدّ وتتأكّد كلّما ابتعد الفقيه تأريخياً عن عصر النصّ، وتراكمت الشكوك على عملية الاستنباط التي يمارسها.
وعلى هذا الأساس يمكن أن نفسِّر الفارق الزمنيّ بين ازدهار علم الاصول في نطاق التفكير الفقهيّ السنّيِّ وازدهاره في نطاق تفكيرنا الفقهيِّ الإمامي، فإنّ التأريخ يشير إلى أنّ علم الاصول ترعرع وازدهر نسبياً في نطاق الفقه السنّيِّ قبل ترعرعه وازدهاره في نطاقنا الفقهيِّ الامامي؛ وذلك لأنّ المذهب السنّيِّ كان يزعم انتهاء عصر النصوص بوفاة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، فحين اجتاز الفكر الفقهيّ السنّيّ القرن الثاني كان قد ابتعد عن عصر النصوص بمسافةٍ زمنيةٍ كبيرةٍ تخلق بطبيعتها الثغرات والفجوات.
وأمّا الإمامية فقد كانوا وقتئذٍ يعيشون عصر النصّ الشرعي؛ لأنّ الإمام امتداد لوجود النبي، فكانت المشاكل التي يعانيها فقهاء الإمامية في الاستنباط أقل