لها معنى من وجهة نظر المنطق الوضعي، وإن كانت تتّصل بعالم الطبيعة. فالقضية القائلة: «إنّ الوجه الآخر للقمر الذي لا يقابل الأرض زاخر بالجبال والوديان» غير محقّقة فعلًا، إذ لا نملك في الوقت الحاضر الإمكانات التجريبية لاستكشاف صدق هذه القضية، رغم أ نّها تتحدّث عن الطبيعة. ولا يمكن أن تعتبر أمثال هذه القضية خاوية لا معنى لها، مع أ نّنا نعلم جميعاً: أنّ العلم كثيراً ما يطرح قضايا من هذا القبيل على صعيد البحث قبل أن يملك التجربة الحاسمة بصددها، ويظلّ يبحث عن ضوء يعينه على تحقيقها حتّى يجده في نهاية المطاف، أو يعجز عن الظفر به، فلماذا كلّ هذا الجهد العلمي لو كانت كلّ قضية لا تحمل بيدها دليل صدقها أو كذبها من الخبرة الحسّية، خواءً ولغواً من القول؟!
وأمّا الافتراض الثاني فهو يسمح لتلك القضية التي تتحدّث عن الوجه الآخر من القمر أن يكون لها معنى؛ لأنّ تحقيقها في الخبرة الحسّية ممكن من الناحية المنطقية، ولكن يجب أن ندرس هذا الإمكان نفسه، لنعرف كيف يتاح لنا التأكيد على أنّ القضايا التي لم تحقّق فعلًا بالإمكان تحقيقها؟ فما دام إمكان التحقيق شرطاً أساسياً في تكوين معنى القضية، فلكي نعرف أنّ للقضية معنى يجب أن نعرف إمكان تحقيقها، فهل هناك من سبيل لمعرفة إمكان تحقيق القضية سوى تحقيقها فعلًا؟
فإن سلّم المنطق الوضعي بأ نّا نتعرّف على إمكان تحقيق القضية عن غير طريق تحقيقها في الخبرة الحسّية فعلًا، فهذا يعني تسليمه بمعرفة مستقلّة عن الخبرة والتجربة، وبذلك يفقد المنطق الوضعي قاعدته الرئيسية.
وإذا أنكر المنطق الوضعي أيّ سبيل للتعرّف على إمكان تحقيق القضية سوى تحقيقها فعلًا، أدّى ذلك إلى أنّ القضية التي تتحدّث عن الوجه الآخر للقمر لا يمكن اعتبارها قضية ذات معنى ما لم تحقّق فعلًا؛ لأنّ كونها ذات معنى مرتبط