نقد الموقف الثالث:
إنّ المقياس الذي يضعه الموقف الثالث إذ يوحّد بين معنى القضية وإمكان تحقيقها لا يمكن قبوله، للنقاط التالية:
أوّلًا: إنّه يتضمّن تناقضاً؛ لأنّ إمكان تحقيق القضية وإثبات صدقها وكذبها، يفترض بنفسه أنّ للجملة صدقاً وكذباً بالإمكان إثباته أحياناً، وليس بالإمكان إثباته أحياناً اخرى. فإمكان الإثبات صفة لاحقة للصدق والكذب، ومترتّبة منطقياً على أن يكون للقضية صدق وكذب، وبالتالي أن يكون لها معنى، إذ لا صدق ولا كذب بدون معنى. وهذا يعني: أنّ القضية لا يمكن أن تستمدّ معناها وصورتها في الذهن من إمكان إثبات صدقها وكذبها، ما دام هذا الإمكان يفترض مسبقاً معنى للقضية وصدقاً وكذباً.
وثانياً: أنّ هناك قضايا ليست ذات معنى فحسب، بل نعتقد عادة بصدقها، ورغم ذلك ليس من الممكن إثبات صدقها أو كذبها بالخبرة الحسّية، كالقضية القائلة: «إنّ خبرة الإنسان مهما امتدّت فسوف تظلّ هناك أشياء في الطبيعة لا تصل إليها الخبرة البشرية» أو «أنّ هناك أمطار قد وقعت ولم يرها إنسان». إنّ قضايا من هذا القبيل تعتبر عادة صحيحة وصادقة، رغم أنّ إثبات صدقها وتحقيقها بالخبرة الحسّية غير ممكن؛ لأنّها تتحدّث عن أشياء لا تقع في الخبرة، فلا يمكن اختبارها. ولا ينفع بهذا الصدد أن يفسّر إمكان التحقيق بالإمكان المنطقي، بدلًا عن الإمكان الفعلي؛ لأنّ استحالة التحقيق في هذه القضايا منطقية وليست فعلية أو مرحلية فحسب.
وثالثاً: نتساءل ما هذه الخبرة الحسّية التي يجب أن يكون بالإمكان تحقيق القضية بها، فهل يراد بذلك: أنّ القضية لكي تكون ذا معنى عندي يجب أن يكون