لأنّ التجربة هي التي تثبت أنّ المكان مسطّح أو غير مسطّح. ومن أجل ذلك كان بالإمكان إقامة هندسات اخرى، مختلفة عن هندسة إقليدس في كثير من نظريّاتها، بافتراض شكل آخر للمكان. ولكن هذا لا ينفي القول بأنّ بديهيات إقليدس ضرورية الصدق في المكان المسطّح، بمعنى أنّ أيّ مكان إذا كان مسطّحاً صدقت عليه بديهيات إقليدس بالضرورة.
وبهذا تتحوّل البديهيات الإقليدية إلى قضايا شرطية، شرطها أن يكون المكان مسطّحاً، وجزاؤها هي الأحكام التي تقرّرها البديهيات. وهذه القضايا الشرطية ليس فيها أيّ عنصر تجريبي، وتتمتّع بالضرورة كقضايا الرياضة البحتة.
وهي في نفس الوقت ليست تكرارية؛ لأنّ الجزاء ليس متضمّناً في الشرط، إذ ليس معنى كون المكان مسطّحاً أن يكون مجموع زوايا المثلّث 180 درجة، أو أن يكون الخطّ المستقيم أقرب مسافة بين نقطتين، فهي إذن قضايا إخبارية ضرورية.
وهكذا يتّضح أنّ المذهب التجريبي يتوجّب رفضه على أساس المقياس الذي وضعناه لتقييم المذهبين؛ لأنّه عجز عن تفسير الحدّ الأدنى من التصديق المعترف به لقضايا المعرفة البشرية. وبذلك تثبت فرضية المذهب العقلي القائلة بوجود معارف عقلية قبلية.
ونلاحظ إلى جانب ذلك تهافتاً منطقياً في إيمان التجريبيين بمذهبهم القائل: إنّ التجربة هي المصدر الأساس لكلّ المعارف البشرية؛ لأنّ هذا القول نفسه قضية يعمّم فيها الحكم على كلّ معرفة، فهل هذه القضية مستمدّة من مصدر قبلي بصورة مستقلّة عن التجربة؟ أو أ نّها مستمدّة من التجربة كأيّ قضية اخرى؟
فإن افترض المذهب التجريبي أ نّها مستمدّة من مصدر قبلي فقد اعترف‏