هل توجد معرفة عقليّة قبليّة؟
أشرنا مراراً فيما تقدّم إلى الخلاف الأساس بين المذهب العقلي والمذهب التجريبي حول مصدر المعرفة وأساسها، ويمكننا أن نعتبر هذا من أهمّ الخلافات الفلسفية التي عالجها الفكر البشري على مرّ العصور، فقد انقسم المفكّرون إزاء هذه المشكلة إلى قسمين:
القسم الأوّل: آمن بأنّ المعرفة البشرية ذات أساس عقلي، وفيها جانب قبلي يتوصّل إليه الإنسان بصورة مستقلّة عن الخبرة الحسّية والتجربة.
والقسم الثاني: آمن بأنّ التجربة هي الأساس العامّ الوحيد الذي يموّن الإنسان بكلّ ألوان المعرفة التي يزخر بها الفكر البشري، ولا توجد لدى الإنسان أيّ معارف قبلية بصورة مستقلّة عن التجربة، وحتّى ما يبدو في أعلى درجات التأصّل في النفس البشرية من قضايا الرياضة والمنطق نظير 1+ 1/ 2، يرجع- في التحليل- إلى التجربة التي عاشها الإنسان على مرّ الزمن.
فالإنسان حينما يمارس التجارب الحياتية والعملية، ويحاول تفسيرها، ليس أعزل على الرأي الأوّل، بل هو مسلّح بتلك المعارف القبلية التي تكوّن الرصيد الأساس للمعرفة، وتقوم بدور المصباح الذي ينير للتجربة طريقها، ويوحي للإنسان بتفسير ما يمارسه من تجارب.
وأمّا على الرأي الثاني فالإنسان أعزل تماماً لا يملك شيئاً سوى بصيص النور الذي يجده في تجاربه، فلا بدّ له أن يفسّر تجربته على أساس هذا النور، دون أن يستمدّ في موقفه ضوءاً من أيّ معرفة قبلية.
وقد قام المذهب العقلي على أساس الرأي الأوّل، وقام المذهب التجريبي‏