فالإنسان حين يمارس التجارب الحياتيّة أو العلميّة ويحاول تفسيرها، ليس أعزل- على الرأي الأوّل- بل هو مسلّح بتلك المعارف القبليّة التي تكوّن الرصيد الأساسي للمعرفة، وتقوم بدور المصباح الذي ينير للتجربة طريقها، ويوحي للإنسان بتفسير ما يمارسه من تجارب.
وأمّا على الرأي الثاني، فالإنسان أعزل تماماً، لا يملك شيئاً سوى بصيص النور الذي يجده في تجاربه، فلا بدّ أن يفسّر تجربته على أساس هذا النور دون أن يستمدّ في موقفه ضوءاً من أيّ معرفة قبليّة.
وقد قام المنطق العقلي على أساس الرأي الأوّل، وقام المنطق التجريبي الحديث على أساس الرأي الثاني.
[المنطق التجريبي ورفض اليقين:]
وكان من نتيجة تجريبيّة المنطق الحديث وإنكاره أيّ أساس عقلي مسبق، اتّجاهه إلى رفض اليقين والقول بأنّ المعارف البشريّة العامّة لا تبلغ درجة اليقين، مهما توفّرت الدلائل عليها وأيّدت التجارب صحّتها.
خذ مثلًا معرفتنا بأنّ الماء يغلي إذا أصبح حارّاً بدرجة معيّنة، فإنّ هذه المعرفة ليس لها مصدر إلّاالتجربة، ومن الطبيعي أنّ التجربة لا يمكن أن تشمل كلّ المياه وفي جميع الحالات، لأنّ العدد الذي يمارس الإنسان اختباره من أفراد الماء محدود على أيّ حال، مهما امتدّت التجربة أو اتّسعت. فالقاعدة العامّة إذن (وهي: أنّ الماء يغلي عند درجة معيّنة من الحرارة) لا يمكن استنتاجها بجميع أفرادها من التجربة استنتاجاً مباشراً، وإنّما هي في الحقيقة تعميم لمدلولات التجربة. ففي المرحلة الاولى نثبت بالتجربة أنّ هذا الماء غلى بالحرارة، وذاك الماء غلى أيضاً بالحرارة، وعدّة مياه اخرى سجّلت نفس النتيجة في التجربة ..