على مرحلة ما قبل الموت من ذلك الخطّ، وأوسع افقاً، وأرحب تطويراً، وأعمق تقييماً لها، ولكلّ ما يعاصرها من دوافع ومغريات، فينشأ في نفسه الاستعداد للتضحية لصالح تلك المراحل الغيبيّة التي آمن بها. وإذا انفتح الإنسان على التضحية في سبيل غير المنظور، والتنازل عن أشياء محسوسة لحساب أهداف غير محسوسة، تمكّن أن ينفتح على القيم الخلقيّة التي تقوم جميعاً على أساس التضحية في سبيل هدف أكبر غير منظور، وأصبحت الأخلاق والمقاييس الخلقيّة أمراً ممكناً من الناحية العمليّة.
وبدون ذلك الأساس الذي يقدّمه الدين إلى الإنسان تفقد الأخلاق رصيدها الواقعي وقوّتها الأساسيّة، وتجربة التاريخ البشري تبرز بوضوح مدى الارتباط بين الدين والقيم الخلقيّة في حياة الشعوب والامم.
وحين يزرع التنظيم الاجتماعي البذور الأخلاقيّة في نفوس الأفراد، ويجعل من القيم الخلقيّة قوى فعّالة في سلوكهم وحياتهم، يحصل من ناحية على ضمانات ذاتيّة للتنفيذ والإجراء نابعة من شعور الفرد بالمسؤوليّة الأخلاقيّة، ويستطيع من ناحية اخرى أن يتسامى بالفرد تدريجاً ويفجّر كلّ طاقات الخير فيه، ولا يعود النظام مجرّد تحديد خارجي صارم لتصرّفات الأفراد، بل يصبح مجالًا يتسامى الأفراد ضمن إطاره وخلال تطبيقه روحيّاً، ويحقّقون المثل الصالح للإنسانيّة على الأرض.
وأمّا الأنظمة الاجتماعيّة الاخرى التي لا تربط الإنسان بأهداف غير منظورة، ولا تشدّه إلى مصالح أكبر من وجوده الآني الذي تمثّله هذه الحياة المادّيّة، فهي لا يمكن أن تقدّم أيّ أساس حقيقي للتضحية في سبيل الأهداف الكبيرة، أو تبرير معقول للتنازل عن مصالح الوجود الآني؛ وبالتالي تفقد القيم والمقاييس الخلقيّة كلّ رصيدها ومعناها، وتتبدّل أخلاق التضحية بأخلاق