سنة من سنن التاريخ، ولهذا يعرض الدين على شكلين: تارة يعرضه بوصفه تشريعاً، كما يقول علم الاصول بوصفه إرادة تشريعية، مثلًا يقول:
«شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَ ما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى وَ عِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَ لا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ»[1]. هنا يبين الدين كتشريع، كقرار، كأمر من اللَّه سبحانه وتعالى، لكن في مجال آخر يبيّنه سنة من سنن التاريخ وقانوناً داخلًا في صميم تركيب الإنسان وفطرة الإنسان. قال سبحانه وتعالى:
«فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ»[2]. هنا الدين لم يعد مجرّد تشريع، مجرّد قرار من أعلى وإنّما الدين هنا فطرة للناس، هو فطرة اللَّه التي فطر عليها الناس و لا تبديل لخلق اللَّه. هذا الكلام كلام موضوعي خبري لا تشريعي إنشائي. لا تبديل لخلق اللَّه: يعني كما أ نّك لا يمكنك أن تنتزع من الإنسان أيّ جزء من أجزائه التي تقوِّمه، كذلك لا يمكنك أن تنتزع من الإنسان دينه. الدين ليس مقولة حضارية مكتسبة على مرّ التاريخ يمكن إعطاؤها ويمكن الاستغناء عنها؛ لأنّها في حالة من هذا القبيل لا تكون فطرة اللَّه التي فطر الناس عليها ولا تكون خلق اللَّه الذي لا تبديل له، بل تكون من المكاسب التي حصل عليها الإنسان من خلال تطوراته المدنيّة والحضارية على مرّ التاريخ. القرآن يريد أن يقول بأن الدين ليس مقولة من هذه المقولات بالإمكان أخذها وبالإمكان إعطاؤها، الدين خلق اللَّه: «فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها» و «لا تَبْدِيلَ لِخَلْق
[1] الشورى: 13
[2] الروم: 30