وهي منطقة لم تمارس أي لون من ألوان الحضارة والمدنية، التي مارستها مختلف المجتمعات الراقية نسبياً يومئذ؛ وكانت هذه اولى المفارقات التي برهنت على أنّ الكتاب لم يجرِ وفق القوانين الطبيعية الاعتيادية، لأن هذه القوانين تحكم بأنّ الكتاب مرآة لثقافة عصره ومجتمعه، الذي عاشه صاحب الكتاب، وتثقف فيه، فهو يعبر عن مستوى من مستويات الثقافة في ذلك المجتمع، أو يعبر على أفضل تقدير عن خطوة الى الامام في تلك الثقافة، وأما ان يطفر الكتاب طفرة هائلة، ويأتي- بدون سابق مقدمات وبلا ارهاصات- بثقافة من نوع آخر لا تمت الى الافكار السائدة بصلة ولا تستلهمها، وانما تقلبها رأساً على عقب، فهذا ما لا يتفق مع طبيعة الاشياء في حدود التجربة التي عاشها الناس في كل عصر.
وهذا ما وقع للقرآن تماماً فانه اختار اكثر المناطق والمجتمعات تأخراً وبدائية، وضيق افق، وبعداً عن التيارات الفلسفية والعلمية، ليفاجئ العالم بثقافة جديدة، كان العالم كلّه بحاجة اليها، وليثبت أ نّه ليس تعبيراً عن الفكر السائد في مجتمعه، ولا خطوة محدودة الى الامام، وانما هو شيء جديد بدون سابق مقدمات.
وهكذا نعرف أنّ اختيار البيئة والمجتمع، كان هو التحدي الاول للقوانين الطبيعية التي تقتضي ان تولد الثقافة الجديدة في ارقى البيئات من الناحية الفكرية والاجتماعية.
2- إنّ القرآن بشّر به وأعلنه على العالم فَرْدٌ من أفراد المجتمع المكي، ممن لم ينل ما يناله حتى المكيون من الوان التعلم والتثقيف، فهو امي، لا يقرأ ولا يكتب، وقد عاش بين قومه اربعين سنة فلم تؤثر عنه طيلة هذه المدة محاولة تعلم أو اثارة من علم أو ادب:
«وَ ما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَ لا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتاب