تفسير أرسطو لتأخّر ظهور المعارف الضروريّة.
وعلى أيّة حال، فإنّ مراد المنطق العقلي من وجود معارف أوّليّة سابقة على التجربة هو السبق الرتبي لا الزمني كما قلنا، ثمّ يتمّ على أساسها استنباط سائر المعارف عن طريق التوالد الموضوعي.
وتعليقنا على ما تقدّم هو أنّ ما قدّمه المنطق العقلي صحيح بأحد شقّيه، وخطأ بشقّه الآخر: فهو محقٌّ في ذهابه إلى أنّ هناك معارف أوّليّة مصدرها العقل، وأ نّها سابقة على التجربة سبقاً رتبيّاً، وأ نّها مصدر سائر المعارف لدى الإنسان. ولكنّه أخطأ في حصره طريقة توالد المعرفة من هذه المعارف الأوّليّة بالتوالد الموضوعي؛ لأنّ المعرفة تتولّد من هذه المعارف الأوّليّة بطريقتين:
إحداهما موضوعيّة والاخرى ذاتيّة، ولكنّ العقليّين- وعلى رأسهم أرسطو- لم يلتفتوا إلى طريقة التوالد الذاتي، وقصروا نظرهم على طريقة التوالد الموضوعي، فأوجب ذلك ظهور نقطة ضعف كبيرة في المنطق العقلي. وقد فتحت هذه الثغرة المجال للنظريّة الثانية لتقول: إنّ العقل عاجزٌ عن أن يمثّل مصدر المعرفة البشريّة؛ لأنّ كثيراً من هذه المعارف لا يمكن تفسيره على أساس العقل الضروري.
ومن هذا المنطلق قام هؤلاء بقلب الأمر رأساً على عقب، فبعد أن عجزوا عن إرجاع كثيرٍ من المعارف الحاصلة عن طريق التجربة في الحقول العلميّة والحياتيّة إلى المعارف الضروريّة، قاموا بإرجاع المعارف الضروريّة إلى التجربة، وادّعوا أنّ التجربة هي أساس المعارف البشريّة.
والصحيح: أنّ هذين الاتّجاهين أخطآ معاً في ما ذهبا إليه وتبنّياه، وقد أوقعهما في ذلك غفلتُهما عمّا يبتني عليه المنطق الذاتي؛ فنحن نعتقد في نظريّة المعرفة أنّ مصدر المعرفة هو العقل لا الحسّ والتجربة، ودليل هذه الدعوى