2- وقسم آخر يعتبر أنّ التجربة هي أصل المعرفة، وأنّ الإنسان لا يعرف شيئاً بمعزلٍ عنها[1].
ولا بدّ من الإشارة هنا إلى أنّ مراد العقليّين من (السبق) في اعتبارهم أنّ هناك مبادئ عقليّة سابقة على التجربة هو السبق الرتبي لا السبق الزمني، فلا ينقض عليهم بما وجّهه إليهم الفلاسفة الأوروبيّون من أنّ الطفل عندما يولد لا يعرف استحالة اجتماع النقيضين أو استحالة اجتماع الضدّين؛ فإنّ هذا الإشكال مبنيٌّ على أنّ مرادهم هو السبق الزمني، والحال أنّ مرادهم ليس هذا.
نعم، هنا ينفتح باب السؤال حول سبب ظهور هذه المعارف لدى الإنسان في مرحلة زمنيّة متأخّرة.
وقد ذكر أرسطو وأتباعه من المسلمين وغيرهم وجوهاً وشروحات للجواب عن هذا السؤال، أصحّها ما أشرنا إليه في كتاب (فلسفتنا)[2]: من أنّ المعرفة التصديقيّة تتوقّف على تصوّر أطرافها، والتصوّر ينبع من الحسّ؛ لأنّه هو المصدر الأساسي له، وحيث لا يمارس الحسّ وظيفته فلا يحصل التصوّر الكامل للأطراف[3]، وحيث لا يحصل ذلك فلا تحصل المعرفة لدى الإنسان، حتّى الضروريّة منها؛ لأنّ معنى كونها ضروريّة هو أنّ النفس تصدّق بالحكم بمجرّد تصوّرها للأطراف، وتصوّر الأطراف يتوقّف على وجود استعداد خاصّ في النفس، وهذا الاستعداد الخاصّ إنّما يحصل عن طريق الحسّ. وهذا هو
[1] المصدر السابق: 89، المذهب التجريبي
[2] المصدر السابق: 143
[3] ومن هنا عرفت مقولة أرسطو من أنّ مَن فقد حسّاً فقد علماً، فراجع: شرح البرهان لأرسطو وتلخيص البرهان: 414