من هنا، استحدث الارتكاز العقلائي الوعاء الاعتباري الذي صاغته صناعة الفقه الإسلامي في مصطلح (الذمّة). وأراد الارتكاز العقلائي من هذا المصطلح أن يقنّن وجود وعاء اعتباري ملصق بشخص الإنسان، يكون صالحاً لتعلّق الملكيّة بأشياء وهميّة في داخله، وهكذا تحدث الذمّة لإيجاد هذه الأموال الاعتباريّة فيها؛ كي تُسْقَط هذه الملكيّة على هذه الأموال الاعتباريّة. وحيث كانت الذمّة وعاءً اعتباريّاً ملصقاً بشخصية الإنسان- بل جزءاً منها بحسب الارتكاز العقلائي- شملت سيطرة الإنسان على نفسه؛ فتلك السلطنة التي كانت ثابتةً للإنسان على نفسه وقواه وشؤونه التكوينيّة سابقاً تنسحب وتسري إلى هذا الشأن الاعتباري، وبهذا يكون الإنسان مسلّطاً على ذمّته على حدّ سلطنته على نفسه التي تحّدثنا عنها سابقاً، بمعنى أ نّه أولى من غيره بالتصرّف في ذمّته، أو أولى منهم بالاستمتاع بها والاستفادة منها، وهذا هو معنى كونه مسلّطاً عليها ومالكاً لها.
وعليه: فسلطنة الإنسان على ذمّته من مظاهر سلطنته على نفسه، بمعنى رجوع السلطنة على الذمّة إلى السلطنة على الذات وقواها؛ فيكون أولى من غيره بالاستفادة من هذا الوعاء الاعتباري كما كان أولى منهم بالاستفادة من نفسه أو قواه الخارجيّة.
نعم، يمكن للقانون النافذ أن يجعل أشياء في هذه الذمّة رغماً عن صاحبها، فيجعله مشغول الذمّة إذا أتلف مال الغير، ويقول له: «إذا أتلفت مال غيرك تشتغل ذمّتك»، أو يجعله مشغول الذمّة تجاه زوجته مثلًا، وهكذا .. أمّا مع قطع النظر عن القانون النافذ، يكون الإنسان نفسه هو المسلّط على هذه الذمّة وأولى من غيره بها.