بدوره عن اختلاف في ذبذبة الفكر بين حدّ المبادئ وبين حدّ المطالب. ولهذا نجد أنّ النزاع في البحث الفلسفي قد لا يرتفع في كثيرٍ من الأحيان، بخلاف ما عليه الحال في البحث الرياضي. ولو أحضرنا اثنين من كبار الفلاسفة وجمعناهما للبحث في قضيّة من القضايا من الصبح إلى الليل، فقد لا يصلان إلى حلّ مشترك، ومن الممكن أ نّه لو طال بهما العمر آلاف السنين لما اتّفقا ولبقي كلٌّ منهما على عدم إيمانه بما يطرحه الآخر.
ولنأخذ على ذلك مثالًا: فلو قال أحدهما في مقام البرهنة على امتناع التسلسل: إنّ أيّ عددٍ نضع يدنا عليه في السلسلة غير المتناهية فهو متناهٍ، وهذا حكمٌ على نحو العامّ الاستغراقي، وهو يستلزم حكماً آخر على نحو العامّ المجموعي، وهو أنّ المجموع متناهٍ، فإذا كان أيّ عدد نضع يدنا عليه من هذه السلسلة متناهياً، للزم منه أن يكون المجموع متناهياً. ويجيبه الآخر بأ نّه لا يدرك ملازمةً بين صدق الحكم على نحو العموم الاستغراقي وبين صدق الحكم على نحو العموم المجموعي، ويبقى هذا يصرُّ على الملازمة وذاك ينكر.
وهذه الدعاوى ليس مردّها إلى العقل الأوّل عندما يتساوى فيها الطرفان، كما أ نّها ليست من قضايا العقل الثاني بالمعنى البرهاني حتّى يقال بوجود حدّ أوسط وإرجاعها إلى قضايا العقل الأوّل، وإنّما مردّ الاختلاف إلى اختلاف حاصلٍ في القرائح.
إلى هنا خلاصة ما ذكرناه في بحث الاصول لدى تعرّضنا لكلام الأخباريّين.
وعلى ضوء ما كنّا نقوله هناك، نثير تساؤلًا حول إمكانيّة تفسير حصول العلم بالعلّيّة على أساس القريحة، بأن نقول: إنّ الإنسان يحصل لديه العلم بعلّيّة الألِف للباء عند تكرّر اقترانها بها لمرّات عديدة بواسطة حاسّة الشمّ، وإذا سألته