الجرس بديلًا عن تقديم الطعام، بحيث يكون له نفس الأثر الذي كان لتقديم الطعام، وهو سيلان اللعاب، لا أنّ دقّ الجرس يحدث حالة غير حالة سيلان اللعاب، فهذا الأمر لم يظهر من مجموع تجارب المدرسة السلوكيّة ومن تجارب الإشراط الطبيعي التي تقوم عليها هذه المدرسة.
إذن: فالمحفوظ في تجارب المدرسة السلوكيّة هو الاستجابة، بحيث يقع التبديل في طرف المنبّه فقط. أمّا في ما نحن فيه، فالاستجابة مختلفة والمنبّه مفقود؛ لأنّه مأخوذ على نحو الفرض والتقدير، والاستجابة هنا حاصلة بنحو القضيّة الحقيقيّة لا بنحو القضيّة الجزئيّة، وهذا تطويرٌ للاستجابة من حدّها الخاصّ إلى حدّها الكلّي، وهذا ما لم تكشف عنه تجربة علميّة إلى يومنا هذا.
علماً بأنّ هذا التطوير من خصائص الفكر البشري الذي ليس مجرّد آلة تخضع لعمليّة ميكانيكيّة من قبيل سيلان لعاب الكلب، فهذا الفكر لا يجانس ما يحصل لدى الكلب عندما تتطوّر استجابته وسيلان لعابه من الاستجابة لتقديم الطعام إلى الاستجابة لدقّ الجرس، ولو كان الأمر كما ذكروا (لعلق في نصف بلعومهم)، وهم يعلمون أنّ التجربة لا تنهض بإثبات ذلك، أي التصديق على نحو القضيّة الحقيقيّة الكلّيّة، وكلّ كلام يدّعي ذلك فهو بمثابة كلام الأطفال في موضوعٍ من الموضوعات، حيث لا يقوم على برهان أو تجربة.
استرجاع النقاش مع هيوم والمدرسة السلوكيّة:
قلنا في البحث السابق: إنّ ما ذكره بعض الفلاسفة التجريبيّين في تفسير حصول العلم بالعلّيّة على أساس العادة لا يمكن له- بوضعه الفلسفي- أن يفي بتفسير ذلك، كما أ نّه لا يفي بذلك بثوبه العلمي الذي قامت بتفصيله وخياطته المدرسة السلوكيّة في علم النفس اعتماداً على تجارب قام بها العالم الروسي بافلوف حول الإشراط وسراية الاستجابة من منبّه طبيعي إلى آخر شرطي.