يصلح لتفسير الواقع غير أنّ ذلك لا يعني قبوله ما دام من الممكن أن نفسّر سلوك هذا الشخص في ضوء آخر، كما إذا افترضنا أ نّه يزور صديقاً له يسكن بيتاً في ذلك الشارع، أو يراجع طبيباً يقطن في تلك المنطقة ليستشيره في حالة مرضية، أو يقصد مدرسة معيّنة تُلقى فيها المحاضرات بصورة رتيبة.
وهكذا الأمر في التفسير الماركسي للتأريخ (/ المادية التأريخية)، فإنّه لا يمكن- حتّى إذا افترضنا كفاءته لتفسير الواقع التأريخي- أن يكتسب الدرجة العلمية أو الوثوق العلمي ما لم يخرج عن كونه افتراضاً، ويحصل على دليل علمي يدحض كلّ افتراض عداه في تفسير التأريخ.
ولنأخذ تفسير المادية التأريخية للدولة مثالًا لذلك، فهي تفسّر نشوء الدولة ووجودها في حياة الإنسان على أساس العامل الاقتصادي والتناقض الطبقي، فالمجتمع المتناقض طبقياً يلتهب فيه الصراع بين الطبقة القوية المالكة لوسائل الإنتاج والطبقة الضعيفة التي لا تملك شيئاً، فتقوم الطبقة الغالبة بإنشاء أداة سياسية لحماية مصالحها الاقتصادية والحفاظ على مركزها الرئيسي، وهذه الأداة السياسية هي الحكومة بمختلف أشكالها التأريخية.
وهذا التفسير الماركسي للدولة أو الحكومة لا يكتسب قيمة علمية مؤكَّدة إلّا إذا أفلست كلّ التفاسير التي يمكن أن يبرّر بها نشوء الدولة في المجتمع البشري، سوى كونها أداة سياسية للاستغلال الطبقي. وأمّا إذا استطعنا أن نفسّر هذه الظاهرة الاجتماعية على أساس آخر، ولم يدحض الدليل العلمي ذلك فليس التفسير الماركسي عندئذٍ إلّاافتراضاً من عدّة افتراضات.
فلن يكون التفسير الماركسي للدولة تفسيراً علمياً إذا أمكن مثلًا أن نفسّر نشوء الدولة على أساس تعقيد الحياة المدنية، ونبرّر بذلك قيام الدولة في كثير من المجتمعات البشرية. ففي مصر القديمة- مثلًا- لم تكن الحياة الاجتماعية فيها