الدليل الآنف الذكر من مجموعة بحوثه.
والآن بعد أن أدركنا الدليل الفلسفي للنظرية بشكل جيّد أصبح من الضروري تحليل هذا الدليل ودرسه في حدود الضرورة الفلسفية، القائلة: إنّ الأحداث لا تنشأ صدفة (/ مبدأ العلّية).
فهل هذا الدليل الفلسفي صحيح؟ هل صحيح أنّ التفسير الوحيد الذي تنحلّ به المشكلة الفلسفية للتأريخ هو تفسيره بوسائل الإنتاج؟
ولكي نمهّد للجواب على هذا السؤال نتناول نقطة واحدة بالتحليل، تتّصل بوسائل الإنتاج التي اعتبرتها الماركسية السبب الأصيل للتأريخ، وهذه النقطة هي: أنّ وسائل الإنتاج ليست جامدة ثابتة، بل هي بدورها أيضاً تتغيّر وتتطوّر على مرّ الزمن، كما تتغيّر أفكار الإنسان وأوضاعه الاجتماعية، فتموت وسيلة إنتاج وتولد وسيلة اخرى. فمن حقّنا أن نتساءل: عن السبب الأعمق الذي يطوّر القوى المنتجة، ويكمن وراء تأريخها الطويل، كما تساءلنا عن الأسباب والعوامل التي تصنع الأفكار، أو تصنع الأوضاع الاجتماعية.
ونحن حين نتقدّم بهذا السؤال إلى بليخانوف- صاحب الدليل الفلسفي- وأضرابه من كبار الماركسيين لا ننتظر منهم الاعتراف بوجود سبب أعمق للتأريخ وراء القوى المنتجة؛ لأنّ ذلك يناقض الفكرة الأساسية في المادية التأريخية القائلة: بأنّ وسائل الإنتاج هي المرجع الأعلى في دنيا التأريخ. ولهذا فإنّ هؤلاء حين يجيبون على سؤالنا يحاولون أن يفسّروا تأريخ القوى المنتجة وتطوّرها بالقوى المنتجة ذاتها، قائلين: إنّ قوى الإنتاج هي التي تطوّر نفسها، فيتطوّر تبعاً لها المجتمع كلّه. ولكن كيف يتمّ ذلك؟ وما هو السبيل الذي تنهجه القوى المنتجة لتطوير نفسها؟ إنّ جواب الماركسية على هذا السؤال جاهز أيضاً، فهي تقول في تفسير ذلك: إنّ القوى المنتجة- خلال ممارسة الإنسان لها- تولّد وتنمِّي في ذهنه