وحينئذٍ يكون الإنسان على مستوى الأهداف الكبيرة، الأهداف التي هو لا يستطيع أن يمتصّها، لا يستطيع أن يستنزفها، لا يستطيع أن يستفيد منها. أعظم الأهداف وأجلّ الأهداف وأسمى الأهداف هي تلك الأهداف التي تكون أوسع من عمر إنسانٍ واحد، أوسع من عمر موجود من الموجودات، هذه الأهداف كيف يمكن أن تُحمَل الإنسانيّة عليها، وتحمل الإنسانيّة على تحقيقها إذا كانت الإنسانيّة لا ترى إلّا مرمى نظرها، إلّا هذا الشوط القصير؟!
إذاً، هذا الهدف ليس هدفها؛ لأنّها هي لا تستنزف عصارة هذا الهدف، ولا تشرب نخب هذا الهدف، فتكون هذه الأهداف معطّلة، وتبقى الإنسانيّة رهن الأهداف القصيرة، رهن الغايات الماديّة المحدودة. وهذه الغايات الماديّة المحدودة هي منطلق ألوانٍ كثيرةٍ[1] من الصراع والكفاح والعراك ما بين الاسرة البشريّة، بين فردٍ وفرد، بين مجتمعٍ ومجتمع، بين قوميّةٍ وقوميّة، بين امّةٍ وامّة.
وأمّا إذا أصبحت البشريّة على مستوى الأهداف الكبيرة؛ لأنّها انطلقت في غاياتها وفي ثوابها وعقابها إلى أكثر من حدود هذه الدنيا، حينئذٍ تستطيع أن تنهض لأجل تلك الأهداف الكبيرة.
من خرج من بيته مهاجراً في سبيل الله فمات وقع أجره على الله[2]. هذا الهدف الكبير هو لم يستطع أن يحقّقه، هو خرج من بيته، هو خطا خطوةً في تحقيق هذا الهدف الكبير. كم من آلاف الناس درسوا وماتوا قبل أن يحقِّقوا النتيجة! كم من آلاف المجاهدين خرجوا للحرب واستشهدوا قبل أن يذوقوا لذّة الانتصار! كم من أجيال المجدِّدين والمصلحين طاقوا[3] وتحمّلوا في سبيل
[1] في المحاضرة الصوتيّة:« كبيرة».
[2] إشارة إلى قوله تعالى: وَ مَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَ رَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ النساء: 100.
[3] كذا في المحاضرة الصوتيّة، فإمّا أن يكون( قدّس سرّه) قد اشتقّها من الطاقة، ومراده:« بذل الطاقة»، وإمّا أن يكون قد قال:« ذاقوا». وفي( ف) و( غ):« طافوا»، من الطواف، والمراد: التجوال.