أضواء على الشخصيـة العلميـة والتفسيرية للشهيد الصدر

إطلالة على مدرسة الشهيد الصدر الفلسفية

إن تركة الشهيد الصدر(قدس سره) من التراث العلمي والفكري كبيرة ومهمة، حيث إنها تناولت مجمل الفكر الإسلامي بأبعاده المختلفة، فقراءة أيّ عنوان من عناوين نتاجه الفكري نلحظ أنه (قدس سره) وضع فيه نظرية كاملة أو لمحات وآفاق وخطوط يمكن أن تنتهي بالدارسين إلى النظرية الكاملة لذلك الموضوع؛ ولذا يفترض أن لا تقتصر البحوث والدراسات عن الشهيد الصدر على الجانب السياسي والروحي والمعنوي، وإنما لابد أن يكون الاهتمام بجانب الفكر الذي يمثل القاعدة والأساس للجوانب الأخرى.
إن البحث في هذا الفصل سيتم من خلال تسليط الضوء على أربعة محاور:
الأول: نظرة عامة حول انجازات الشهيد الصدر.
الثاني: الأبعاد العلمية للشهيد الصدر.
الثالث: الأعمال القرآنية وملامح التجديد عند الشهيد الصدر.
الرابع: منهج التفسيـر عند الشهيد الصدر.
المحور الأول: نظرة عامة حول انجازات الشهيد الصدر
إن الاهتمام بالجانب العلمي والفكري يعتبر من القضايا المهمة، لاسيما مع ما يمّر به العالم الإسلامي من مواجهة ثقافية وفكرية حادة مع الحضارة المادية التي بدأت تتراجع أمام عزّ الإسلام وقوته وقدرته. وقد أعطى الشهيد الصدر(قدس سره) أهمية وأولوية للبحوث والدراسات الفكرية الإسلامية، فعكف على دراسة النظرية الإسلامية من زوايا متعددة وأبعاد مختلفة، فجاء نتاجه العلمي على مدار سنين عمره الشريف متنوعاً ومغطياً مساحات كبيرة من الرؤية القرآنية للحياة وما بعدها. وعند استعراض هذا التراث العلمي وتصفحه يمكن تسجيل بعض الإثارات العامة حوله التي تحمل مداليل مهمة تنفع في تقييم شخصيته العلمية واهتماماته ورؤيته للحياة. والإثارات هي:
الإثارة الأولى: إن الظروف التي كان يعيشها الشهيد الصدر لابد أن تؤخذ بعين الاعتبار عند تقييم فكره تقييماً دقيقاً. لقد ولد كل النتاج العلمي وبدون استثناء للشهيد الصدر في ظل ظروف الحصار للفكر الإسلامي، حيث بدأ عطاؤه الفكري العام بعد الانقلاب السياسي الذي أطاح بالنظام الملكي وتحول فيه العراق إلى النظام الجمهوري ، وبالرغم من أن العهد الجديد اتسم إلى حد ما بحرّيات سياسية، غير أنها كانت – للأسف – على حساب حرية الفكر الإسلامي، بعد أن طغى على الشارع العراقي التيار السياسي الماركسي، الذي اتصف بشكل بارز باتخاذ القمع كأسلوب من أساليب الهيمنة والسيطرة السياسية، فكان سحل المعارضين له بالحبال في الشوارع أحد العلامات السياسية الفارقة والمعروفة له، ولولا الأوضاع الاجتماعية التي تحيط بي شخصياً والعلاقات الموجودة مع المرجع الكبير الإمام الحكيم والضمانات التي تولدها مثل هذه العلاقات كحماية لحركتي لكان من الممكن أن يتم اغتيالي بطريقة أو بأخرى لمجرد طبع كتاب يتناول رؤية الإسلام لقضايا المعرفة والوجود والحياة ، فالشهيد الصدر بدأ نتاجه الفكري في مثل هذه الظروف السياسية العصيبة.
وانتهى نتاجه(قدس سره) في ظروفٍ أشدّ حصاراً وأكثر بطشاً، فالنظام البعثي العفلقي قمع الحركة الفكرية والثقافية في العراق بكل قسوة وغلظة من خلال فرض رقابة صارمة على مطبوعات الفكر والثقافة وبالأخص الإسلامية منها، والمنع التام من تداول الكتاب الثقافي الإسلامي بشكل لم يشهد العراق له مثيلاً ؛ ولذلك يمكن القول: إن النتاج الفكري للشهيد الصدر كان يتمتع بقدر كبير من القوة والعمق والفاعلية أهلته أن يقفز على كل هذه الموانع ويحطم كل هذا الحصار ويزيل كل هذه العقبات والسدود وينفذ إلى العالم الإسلامي مؤثراً فيه.
الإثارة الثانية: استعراض طبيعة التأثيرات الفكرية العميقة والكبيرة التي أحدثها فكر الشهيد الصدر في العالم الإسلامي، ففكره (قدس سره) الذي تنوع وتوزع على أعماله الفكرية، حتى كاد أن يستوعب كل أطراف الفكر الإسلامي، تميز بعنصر الإبداع والتجديد من ناحية، وبالعمق والدقة والتجذّر في الارتباط بالإسلام الأصيل المصفى من ناحية أخرى، وبعنصر الاستنطاق من ناحية ثالثة؛ وذلك من خلال الانطلاق من الواقع الفعلي الذي تعيشه الأمة وعرضه على الإسلام واستنباط الموقف الإسلامي؛ ولذا استطاعت الأعمال الفكرية للشهيد الصدر ـ الذي كان من العلماء الأفذاذ الذين عرفهم التاريخ المعاصرـ من أحداث تأثير بالغ في الفكر الإسلامي المعاصر وتأثير كبير في العالم الإسلامي، وشواهد ذلك كثيرة وعديدة، منها:
1ـ كان الشهيد الصدر (قدس سره) من رواد الانفتاح في مجال الفكر الإسلامي على الأوساط السنيّة، التي تسيطر سياسياً على عموم العالم الإسلامي، وهي تتسم بالسلبية، وأحياناً بالتعصب الأعمى تجاه الفكر الشيعي والحركة الشيعية ومؤسساتها، ولكن مع ذلك كان الشهيد الصدر أول من يغزو هذه الأوساط ويقتحم مؤسساتها من خلال فكره التجديدي الذي كان أساسه الينبوع الصافي المتمثل بالحوزات العلمية، كما هو الحال في كتاب اقتصادنا، الذي تم نشر ألفي نسخة منه في طبعته الأولى بصعوبة بالغة بسبب الحصار والقمع الذي كان يرزح تحته العراق، ثم بعدها جاءت مؤسسة سنيّة في دمشق وطلبت من المؤلف طبعه، فكان في كل سنة يطبع منه عشرات الآلاف من النسخ ويوزع في عموم العالم الإسلامي وغيره. وهذا كله كان قبل انتصار الثورة الإسلامية في إيران، وأما بعد انتصارها فالأمر تطور بشكل كبير جداً؛ بسبب القفزة العظيمة والنهضة الكبيرة التي حصلت في العالم الإسلامي.
2ـ دعوة وزارة الأوقاف الكويتية للشهيد الصدر للاشتراك في ندوة فكرية تبحث إمكانية إيجاد بنوك غير ربوية في العالم الإسلامي، وهي أول مرة تقدم دعوة لعالم شيعي، إذ لم يكن يدعى أي عالم شيعي في مثل هذه الندوات.
لقد استجاب الشهيد الصدر للدعوة، وكتب دراسة متكاملة حول الموضوع وبعثها للندوة، وهذه الدراسة هي كتاب (البنك اللاربوي في الإسلام) الذي اعتُمد؛ لجذره الإسلامي الأصيل المستدل عليه، كأساس في المنظمات المصرفية الإسلامية الموجودة الآن في العالم الإسلامي كدبي، والكويت، والسودان، ومناطق أخرى من العالم الإسلامي، وهي أكثر نجاحاً من البنوك الربوية.
3ـ إن قيام النظام الجمهوري الإسلامي الآن وقدرته على البقاء والاستمرار من ناحية، وإدارة شؤون الأمة من ناحية أخرى، والتكيف مع ظروف العالم الحالية من ناحية ثالثة، اعتمد من حيث الأساس على الرسالة التي كتبها الشهيد الصدر في هذا المجال ، مما يعني أنه (قدس سره) أول من قدم الأطروحة لأصل نظام الجمهورية الإسلامية – الذي هو قضية مهمة جداً على مستوى الفقه السياسي – بكل معالمها وملامحها لعالمنا الإسلامي مع قطع النظر عن التفاصيل؛ لأن التفاصيل لا يفترض أن تقدم في مثل هذه الأعمال؛ لأنها تتغير عادة وتتبدل، وإنما تقدم أصل النظرية والأطروحة؛ ولذا اكتفى الشهيد الصدر بتقديم أصل الأطروحة.
إن هذه النماذج تؤشر وبوضوح إلى مدى تأثير فكر الشهيد الصدر (قدس سره) ومستواه في الساحة الفكرية الإسلامية، بل وحتى الساحة العالمية، فكتاب فلسفتنا واقتصادنا ناقش فيهما الشهيد الصدر الفكر الشيوعي وفلسفته اعتماداً على ما أثبته كتّابهم كـ(روجيه غارودي) ، الذي كان أحد المفكرين والمنظرين للفكر الشيوعي، بحيث إن أكثر المادة الذي اعتمد عليها الشهيد الصدر في المناقشة، خصوصاً فيما يتعلق بالتفاصيل على ما كتبه روجيه غارودي.
وهكذا ما طرحه في كتاب (الأسس المنطقية للاستقراء) ونظرية حساب الاحتمالات وتطبيقها بعد إصلاحها وتطويرها، والتي استعاض بها عن نظرية الاستقراء الأرسطية التي اعتمدت في المنطق الأرسطي، وتمدد نظرية حساب الاحتمالات لتشمل مجالات علمية غير مجال الاستدلال على وجود الله سبحانه وتعالى، كعلم الرجال، والفقه، وأصوله، وغير ذلك.
ولكن مع كل ذلك نحتاج إلى عملين رئيسيين في هذا المجال:
العمل الأول: ملء الفراغات الرئيسية والأساسية التي تركها الشهيد الصدر، وإن كان أعطى بعض الآفاق واللمحات والخطوط لها، فمثلاً ترك (قدس سره) فراغاً في الجانب العقائدي، حيث إنه كتب عدة دفاتر في العقيدة الإسلامية احتوت على تصورات ونظريات جديدة في فهم العقيدة وفي دراستها والوصول إليها، ولكن ذهبت هذه الأوراق إلى مكان مجهول بعد اعتقاله واستشهاده.
وهكذا الفراغ في دراسة التاريخ الإسلامي، وبالخصوص تاريخ أئمة أهل البيت (عليهم السلام) ودورهم في الحياة الإسلامية، فإن ما تحدث عنه (قدس سره) في هذا المجال إنما هو مجموعة من المحاضرات كان يلقيها في بعض مناسباتهم (عليهم السلام)، ثم جمعت في أوراق محدودة ونشرت كتيبات، وهذا يتيح فرصة كبيرة وواسعة لسد الفراغ والكتابة في هذا المجال تستند على رؤاه (قدس سره) وطريقة معالجته لهذا الأمر.
العمل الآخر: متابعة أفكار ونظريات الشهيد الصدر الكاملة، فمثلاً في الاقتصاد الإسلامي كانت للشهيد الصدر نظرية كاملة، لكن متابعة هذه النظرية تطبيقيا وتنفيذياً بحيث تصبح لها امتدادات على شكل قوانين أو على شكل مجالات تناولتها النظرية بشكلها العام، هذه المتابعة حتى الآن لم تتم بالشكل المناسب ، ولاشك بأن المشكلة الاقتصادية الآن تعتبر من أهم المشكلات المعاصرة التي يواجهها عالمنا اليوم.
وهكذا في موضوع المجتمع الإسلامي، فمن خلال مجموع كتاباته المتفرقة في الكتب والكراسات المختلفة حول هذا الموضوع يمكن القول: إنها نظرية كاملة تقريباً حول المجتمع الإسلامي، وبالتالي يمكن تقديمها للعالم اجمع من خلال فكر الشهيد الصدر، ولاشك أن القضية الاجتماعية من القضايا المهمة في عالم اليوم.
وهكذا نظرية أسس الاستقراء المنطقي التي أسسها (قدس سره) والتي لها تطبيقات واسعة في مختلف المجالات حتى في المجالات الفقهية كما يشير هو لذلك، ولكن تحتاج هذه التطبيقات في المجال الفقهي وغيره إلى متابعة، وبالتالي يمكن الاستمرار في هذا اللون من النشاط حول الشهيد الصدر الذي يخدم الإسلام أكثر مما يخدم شخصه الكريم.
الإثارة الثالثة: إن الشهادة في سبيل الله للسيد الصدر تميزت من جهة المضمون والخلفية عن باقي الشهادات في العالم الإسلامي الذي يكتظ بالشهداء، فهي شهادة خطط لها (قدس سره) وأقامها على أسس فكرية، وسعى نحوها بعد فهم كل الظروف المحيطة به لتكون ذات تأثير كبير في أوساط الأمة؛ ولذا هي اقرب ما تكون إلى شهادة الإمام الحسين (عليه السلام) التي امتازت بمضمونها الفكري عن كل شهادات أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، والتي أريد لها البقاء والتأثير الروحي والمعنوي والفكري في أوساط الأمة.
فعند تقييم أعمال وانجازات الشهيد الصدر نلاحظ أن أهم وأعظم عمل قام به هو الاستشهاد في سبيل الله، فالشهادة برّ ما فوقه بر كما هو لسان الرواية الشريفة ، وهي – الشهادة في سبيل الله – كذلك من منظوره (قدس سره)، فلو لم يرَ انها أعظم وأهم عمل لأوقفها من أجل أن يبقى ينبوع الفكر والتأليف والكتابة والحديث والتربية لمختلف الأجيال والأوساط مستمراً في عطائه، فرغم أن استشهاده كان خسارة فادحة للعالم الإسلامي وهو يعلم بذلك، حيث توقف هذا الينبوع الثر الذي تضرب جذوره في أعماق الخط الأصيل، المتمثل بخط أهل البيت (عليهم السلام) والمرتبط ارتباطاً وثيقاً بالمؤسسة الشرعية الطاهرة، مؤسسة الحوزة العلمية، فهو ابنها البار ونتاجها وحاملاً لهمومها، حيث أنه لم يُرَ في حركته وحياته غير الحوزة العلمية.
غير أن فهمه للشهادة (قدس سره) كان يعبّر عن رؤية عرفانية وانجذاب نحو الله تعالى وارتباط عالٍ به عزّوجل، ويعبّر عن فهمٍ فكري خاص لشهادة الإمام الحسين (عليه السلام)، ولذا كان يعتقد أن الأمة في هذا العصر تحتاج إلى دم كدم الإمام الحسين (عليه السلام) يهزها ويوقظها ويحركها نحو الأهداف الصالحة الإلهية، فإذا نظرنا إلى شهادته (قدس سره) فهي لم تكن مجرد اغتيال لإنسان يمر في طريق يتربص به الأعداء، بحيث لو كان يعرف بتربصهم لاختار طريقاً آخر ولسار في منهج آخر، وإنما كان يعرف أن كل خطوة يخطوها فأنها خطوة تقربه نحو الشهادة التي أراد لها أن تكون مؤثرة في أوساط الأمة كتأثير شهادة الإمام الحسين (عليه السلام) في الأمة، ولمّا لم يكن ثمة من يقترب من الإمام الحسين (عليه السلام) في شخصيته وانتمائه إلى رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) وارتباطه بالإسلام، فكان يقول: نحتاج إلى الدماء الكثيرة التي من خلالها يمكن أن نجسّد دم الإمام الحسين (عليه السلام) في المنطقة وفي هذا الجيل، فكان يعتقد أن دمه ودماء صحبه ومحبيه ومريديه ضرورة فكرية لهزِّ ضمير الأمة الذي كاد أن يموت في هذا العصر، فكانت شهادته (قدس سره) لها هذا المضمون الفكري والفهم العلمي للتاريخ ولحركته.
المحور الثاني: الأبعاد العلمية للشهيد الصدر
عند تناول الشخصية العلمية للشهيد الصدر في أحد جوانبها، لابد من الإشارة ولو إجمالاً إلى الأبعاد المختلفة التي كانت تتصف بها شخصيته العلمية؛ لتكون الصورة واضحـة تجاه أعماله التي أنجزها (قدس سره)، وسيتم الاقتصار على الإشارة إلى بعض الأبعاد، التي تساهم في توضيح الصورة، وهي:
البُعد الأول: السعة والشمول
إن فعاليات الشهيد الصدر العلمية شملت عموم العلوم الإسلامية ذات العلاقة بالعقيدة، والشريعة الإسلامية، والمجتمع الإسلامي، فقد تناول بالبحث: الفقه، والأصول، والفلسفة، والعقائد، والتفسير، والحديث، والرجال، والتاريخ الإسلامي، وفلسفة التاريخ، والمنطق، والنظام الإسلامي، والاقتصاد السياسي، والمجتمع الإسلامي، والأخلاق، والسياسة.
وكان تناوله (قدس سره) لهذه الموضوعات بصورة مستقلة أحياناً، وفي ضمن الأبحاث أحياناً أخرى، كما كان يتناول الموضوع الواحد من خلال أبعاد متعددة؛ ليعطي للشمول سعة، وانطلاقاً، وعمقاً.
كما كان يلاحق – في بعض الأعمال على الأقل، كالأعمال الفقهية، والأصولية، والفلسفية، والمنطقية – تفاصيل النظريات العلمية، ويقدّم التصورات العديدة حولها.
ولذا أعتقد: إننا بحاجة إلى عمل علمي وتنظيمي؛ لفرز الكثير من المفردات وتنظيمها، أو تبويبها؛ لإبراز هذا البعد في أعماله (قدس سره) من ناحية، وتيسير الاستفادة من جهوده العلمية من ناحية أخرى.
البُعد الثاني: التحقيق والتجديد والحاجة
لم يهتم الشهيد الصدر بالشمول كهدف – كما هو الحال في كثير من أعمال العلماء السابقين – وإنما كان العمق في التناول للموضوعات، والتجديد فيها هدفه الأساس من وراء مختلف الأبحاث التي كتبها، بحيث يلاحظ الباحث، والمطالع لها الشيء الجديد دائماً، أو العرض الجديد، أو النكهة الجديدة على الأقل، مضافاً إلى محاولته الدائمة في التفتيش عن نقاط الفراغ في الموضوعات التي يتناولها؛ كي يملأها ويثري بذلك الأبحاث الإسلامية، ويتابع الحاجات الفكرية والثقافية القائمة ليسدها.
وهذا – في الواقع – أحد الأسباب الرئيسة التي جعلت أعماله الفكرية موضع الاهتمام والإقبال عليها في الأوساط العلمية، والاجتماعية، والسياسية المختلفة، وأصبحت بمجموعها تمثل مدرسة في المضمون والمنهج.
البُعد الثالث: استكشاف النظرية
لم يكتف الشهيد الصدر بالعمق كهدف أساس، بل وضع إلى جانبه هدفاً آخر سعى إليه، وهو استكشاف النظريات العامة التي يمكن أن تنظّم وتفسّر مجموعة من المفردات، وتكون قاعدة يعتمد عليها في الحالات المشابهة، وفي تقديم الصورة الكاملة للإسلام، وطريقة معالجته للمشاكل الاجتماعية والإنسانية الكلية.
فلم يقتصر في بحثه العلمي على متابعة الجزئيات وتعميقها – كما نراه في كثير من الأعمال العلمية العميقة لعلمائنا الأعلام – بل كان ينطلق منها إلى الكليات التي تجمعها وتربط بينها، مما كان يضفي على العمق والتجديد في آنٍ واحد بُعداً جديداً مهماً يساهم في دعم المواجهة الحضارية التي يخوضها الإسلام مع الحضارات الجديدة.
البُعد الرابع: التحليل في البحث العلمي
كان التحليل العلمي طابعاً مميزاً لأعمال الشهيد الصدر (قدس سره) العلمية، بحيث كان يتناول القضايا المختلفة، ومنها القضايا التي يتحكم بها العرف والذوق الفني بالتحليل العلمي الموضوعي، وينتهي بها إلى نتائج رائعة تفسر وتبيّـن تكوّن العرف العام والذوق الإنساني، فهو يدرسها كظاهرة اجتماعية، أو لغوية كما يدرسها العالم في مختبره، ولا يبتعد بها عن إطارها الخاص والأرضية التي احتضنتها ونمت فيها.
كما يلاحظ ذلك بوضوح عند دراسته للوضع في اللغة، والمعنى الحرفي للظهور ، وللسيرة العقلائية أو لأساليب الجمع العرفي الذي يصطلح عليه عند الأصوليين بـ(التعارض غير المستقر) .
ولعلّ كتابه (الأسس المنطقية للاستقراء) هو أروع وأدق محاولة لتفسير ظاهرة حصول اليقيـن لدى الإنسان من التواتر والاستقراء، وذلك في مقابل محاولة المنطق الأرسطي الذي يعجز عن تفسير هذه الظاهرة، وفي مقابل نظرية حساب الاحتمال الغربية التي تعاني من خطأ في الأساس.
البُعد الخامس: الواقعيـة والتجربة
تميـّز الشهيد الصدر بالواقعية في البحث العلمي، والتي هي أساس لكل بحث علمي في الشريعة أو المجتمع.
والواقعية: تعني الانطلاق من الواقع القائم (الموضوع) عند تفسيره ومعالجته بعد استنطاق القرآن الكريم، والسنّة الشريفة، والقوانين العلمية، والتاريخية، وبالتالي التمييز بين تفسير النص بالواقع، وبين تفسيره مع الإغماض عنه وفصله عن إطاره وهدفه، كما وقع في ذلك كثير من الباحثين.
فالالتزام بحالة تفسير الواقع بالنص ومعالجته من خلال النص الشرعي، والسعي لتحقيق هدف النص الذي ورد لمعالجة هذا الواقع يمكن تسميته بمنهج (الاستنطاق)؛ لما ورد عن الإمام علي (عليه السلام) في حديثه عن القرآن الكريم، حيث قال: «ذلك القرآن فاستنطقوه ولن ينطق ولكن أخبركم عنه، ألاّ انّ فيه علم ما يأتي والحديث عن الماضي ودواء دائكم ونظم ما بينكم» ، وقد أشار الشهيد الصدر (قدس سره) إلى هذا البعد في البحث العلمي، عند تناوله الفرق بين التفسير الموضوعي والتفسير التجزيئي .
وقد أعطى (قدس سره) لهذه الواقعية بُعداً أعمق، حيـن أدخل عنصر نتائج التجربة البشرية في الموضوعات التي بحثها كطرف في البحث والمقارنة، حيث تصبح النظرية التي يراد استنباطها أكثر وضوحاً وواقعية، كما نشاهد ذلك في مجموعة من أعماله العلمية، مثل: كتاب فلسفتنا، واقتصادنا، والتفسير الموضوعي، حيث اعتمد أسلوب المقارنة مع حصيلة التجارب البشرية المعاصرة أساساً في فهم النظرية الإسلامية.
البُعد السادس: الاهتمام بالشكل والمخاطب
اهتم الشهيد الصدر (قدس سره) بالشكل مضافاً إلى اهتمامه بالمضمون؛ لأنّ الشكل يخدم المضمون في معرفته وأهدافه، مضافاً إلى أنه (قدس سره) كان يكتب للأمة بكل مستوياتها؛ انطلاقاً من الحاجات والإحساس بوجود الفراغ الذي يجب أن يملأ، فهو يكتب بروح وهدف رسالي، وللعلم من أجل العمل، لا للعلم من أجل العلم، كما انه لم يكتب لنفسه أو للنخبة العلمية فحسب، بل كان يهتم بدرجة كبيرة بالخطاب العام للأمة، وبالأوساط المثقفة لها، ومعالجة القضايا الساخنة التي تعيشها الأمة أو الأوساط العلمية والفكرية، والاجتماعية، ولذلك لاقت أعماله رواجاً كبيراً من ناحية، وعالجت القضايا الساخنة التي تعيشها الأمة أو الأوساط العلمية والفكرية والاجتماعية وبقيت حيـّة وفاعلة من ناحية أخرى.
ويمكن ملاحظة ذلك بوضوح في بعض كتاباته الفلسفية، والاقتصادية، و التفسيرية، والفقهية، والأصولية، والعقائدية. فالتيسير كان أحد الأبعاد المهمة المميزة في شخصيته العلمية.
البُعد السابع: الممارسة الميدانية والاجتماعية
إن كتابات الشهيد الصدر عن الواقع لم تكن من خلال التصور والفرض له، أو تخيله، أو من خلال ما يقرأ عنه، وإنما كانت نابعة منه؛ لكونه يعايش الواقع – في كثير من الأحيان – بعقله وروحه ويتحرك ضمنه عبر الممارسة والمشاهدة الحسيّة، ويتفاعل معه يومياً من خلال الصراع السياسي، والمعايشة الاجتماعية والفكرية المستمرة، والعطاء المتبادل، والعلاقات الواسعة مع مختلف قطاعات الأمة من طلبة العلوم الدينية والعلماء والوكلاء والمبلغين، إلى أوساط أساتذة وطلاب الجامعات، إلى أوساط الجماهير، وملاحظته للأوساط الملتزمة دينياً، وغير الملتزمة.
فكان (قدس سره) يتحرك بنفسه على هذه الأوساط عند زياراته المنظمة والدورية إلى بغداد والكاظمية، وكذلك زياراته إلى لبنان، ومتابعاته للأحداث، وحواراته العلمية، كما كانت الأمة تتحرك بنفسها عليه من خلال مجلسه اليومي أو الأسبوعي الذي ترتاده مختلف أوساطها، ويجيب فيه عن مختلف الأسئلة.
ولذلك جاءت كتاباته وأحاديثه – إلى جانب ما اشتملت عليه من عمق ودقة في المضمون – ملتصقة بالواقع الحياتي للناس، وسهلة التناول والفهم، فكتب في كثير من الأحيان من أجل الأمة والجمهور – بالقدر الذي يسمح به البحث العلمي – كما حصل ذلك في كتاباته (دروس في علم الأصول)، (الإسلام يقود الحياة)، (المدرسة الإسلامية)، (الفتاوى الواضحة ومقدمتها في علم الكلام)، (المدرسة القرآنية)، وغيرها.
ومن هنا يمكن القول: إنّ الشهيد الصدر لم يكن بوجوده السياسي لكل الأمة فحسب، بل كان في أعماله العلمية كذلك، باستثناء بعض الأعمال التي كانت الظروف الموضوعية، أو طبيعة البحث ومستواه تفرض اختصاصها بالنخبة العلمية، كبعض أعماله الفقهية، والأصولية، والمنطقية، وحتى هذه حاول فيها التبسيط والتيسير بحيث يمكن أن يتناولها ويفهمها أوسع دائرة من ذلك الوسط.
وبهذا الصدد أتذكر أن الشهيد الصدر عندما كان يكتب الأسس المنطقية للاستقراء ـ الذي كان يقيِّمه بأنه أعظم عمل علمي له ـ كان يقول عنه في الجواب عن سؤال يطرحه على نفسه دائماً، بصدد الموازنة بين حجم الجهد الذي يبذله فيه، وحجم المنفعة التي يمكن للأمة أن تحصل عليها منه: انه مدفوع لهذا العمل برغبة علمية.
بالرغم من أنّ هذا العمل العلمي له آثار مهمة تنعكس على العقيدة، والفقه، والأصول، وكل نواحي المعرفة الإنسانية، ولكنه كان يفكر دائماً في الأمة ومدى إمكان استيعابها لهذا العمل العلمي واستفادتها منه.
البُعد الثامن: السرعة في الانجاز ووفرته
إن السرعة في التنفيذ والانجاز للأعمال العلمية، بحيث تبلغ أحياناً وقتاً قياسياً كانت أحدى ميزات الشهيد الصدر(قدس سره).
فكتاب فلسفتنا – الذي كتبه مرتين بصيغتين مختلفتين، وتم طبع الصيغة الثالثة منه – تم انجازه في فترة لا تتجاوز عشرة أشهر في ظل ظروف بالغة القلق والصعوبة والحساسية، واحتاج (قدس سره) إلى مراجعة مجموعة كبيرة من كتب الفلسفة الماركسية، ومجموعة من الكتب الأخرى ذات العلاقة بالفلسفة الديمقراطية والإسلام، لاستيعابها من ناحية، والتعرّف على مواقع الخلل فيها من ناحية أخرى، علماً بأنّ أكثر هذه الكتب والدراسات لم تكن في صراط البحث العلمي التقليدي له، ولم تكن متوفرة في الأســواق التجارية حينذاك.
وكتب الحلقة الثانية من سلسلة دروس في علم الأصول في ثلاثة أسابيع، وكتب الجزء الأول من الحلقة الثالثة في مدة أربعة وثلاثين يوماً، وكتب (الإسلام يقود الحياة) في مدة لا تتجاوز الشهر ، في ظروف كان يمارس فيها أعماله العلمية، والأعمال الاجتماعية، والإدارية التي يمارسها المراجع في إدارة شؤون طلبة العلوم الدينية والناس.
ومضافا إلى السرعة في الانجاز يُلحظ عليه (قدس سره) الوفرة في الإنتاج العلمي مع وجود العوامل المضادة له، كالنشاط الاجتماعي والسياسي الذي توّجّه بتصديه للمرجعية الثائرة، والشهادة في سبيل الله والإسلام. فالنشاط الاجتماعي والسياسي يعتبر عاملاً مضاداً للإنتاج العلمي، ويؤثر بشكل سلبي على التخصص والانصراف إلى الدقة والعمق؛ ولذا يمكن تصور مدى وفرة الإنتاج العلمي له (قدس سره) لولا هذه المداخلات بعد الأخذ بنظر الاعتبار خصوصيتين كان يذكرهما أحياناً، وهما:
1ـ التفكير المتواصل منذ بداية عمله العلمي طيلة الفترة التي يكون فيها مستيقظاً.
2ـ إن ممارسته للعمل السياسي والاجتماعي كان بدافع الوظيفة الشرعية، ولم يكن لديه ميل نفسي إلى ممارسة الأعمال الاجتماعية والاختلاط بالناس كما كان يصرّح بذلك، بينما يمثل العمل العلمي رغبة ملحة بالنسبة له، ويشعر باللذة والارتياح لممارسته مهما طال الوقت والزمن ومهما طالت به الخلوة، كما كان يتحدث بذلك أحياناً؛ ومن هنا تمكن (قدس سره) من كتابة دورة كاملة لأصول الفقه وهو في سن يقارب العشرين عاماً، وكان يقول عن كتاباته هذه: إنها تشكل الأساس لكل أفكاره الأصولية التالية، بحيث إنه كان يقول: إنه في المراحل اللاحقة لم يحصل تغييـر لديّ إلاّ بشكل جزئي في أفكاري وتصوراتي في علم الأصول.
ومع هذا كلّه نجد (قدس سره) تمكن أن يحول كل الظروف السياسية والاجتماعية، والممارسات المنسجمة معها إلى عامل ايجابي في إنتاجه العلمي من الناحية الكيفية، فبالإضافة إلى الكثير من ممارساته العلمية – التي أملاها عليه الشعور بالمسؤولية تجاه الظروف السياسية والاجتماعية – كان العمل السياسي والاجتماعي يفجر لديه (قدس سره) – أحياناً – الطاقات العلمية ويفتح آفاقاً جديدة أمامه، فكتبه: البنك اللاربوي، وفلسفتنا، واقتصادنا، والإسلام يقود الحياة، ومحاضراته في التفسير الموضوعي، وتاريخ الأئمة (عليهم السلام)، وغيرها كانت نتاجاً لهذه الظروف.
كما انّ البعد الواقعي الذي اتصفت به أعماله العلمية، بحيث جعلتها عملاً متصلاً بالحياة السياسية والاجتماعية، وليست مجرد ترفاً فكرياً كان بفضل هذه الظروف السياسية والاجتماعية.
وقد وعد (قدس سره) القرّاء في كتابه اقتصادنا أن يتحفهم بكتاب (مجتمعنا)، إلاّ انه لم ينجز هذا العمل على شكل كتاب، وإن كان قد أنجز أكثر أصوله وأسسه من خلال أعماله العلمية الأخرى، حيث نجد ذلك في كتاباته: الإسلام يقود الحياة، والمدرسة الإسلامية، والتفسير الموضوعي، وبعض فصول كتاب اقتصادنا، وبعض المقالات الأخرى.
وبذلك تمكن (قدس سره) من الجمع بين خصوصية الشمول – التي كان يتصف بها الأوائل من علمائنا قبل توسع المعرفة الإسلامية في مختلف مجالاتها – وبين العمق، والدقة، والتجديد، والواقعية، والأسلوب الميسّر الذي يتفاعل به مع مختلف طبقات المجتمع، إلى جانب الممارسة العملية للعمل السياسي والجهادي، بالإضافة إلى التدريس والتربية لعدد كبير من العلماء وطلاب العلوم الدينية، وقلّما يتوفر كل ذلك في عرضٍ واحد لعالم من علماء الإسلام.
المحور الثالث: الأعمال القرآنية وملامح التجديد عند الشهيد الصدر
إن الأعمال التفسيرية للشهيد الصدر (قدس سره) يمكن إجمالها في أربع مفردات مع قطع النظر عن بعض المحاولات المتفرقة في كتبه، ودراساته، أو بعض المقالات الأخرى. وعند استعراض كل مفردة منها ودراستها بشكل سريع يمكن تلمّس ملامح التجديد
فيها، والمفردات هي:
المفردة الأولى: محاضرات علوم القرآن
لقد طُلب من الشهيد الصدر كتابة منهج في علوم القرآن لطلبة كلية أصول الدين التي تأسست في بغداد سنة 1384هـ؛ لتربية الكوادر الإسلامية التي يمكن أن يكون لها دور في مختلف المجالات الإسلامية، وبالخصوص مجال التربية والتعليم، وكانت ترتبط بالخط المتصدي، للعمل السياسي والاجتماعي في جهاز المرجعية الدينية للإمام الحكيم؛ ولذا حظت برعاية خاصة من قبل الشهيد الصدر الذي كتب منهج السنة الأولى، وبعض منهج السنة الثانية ، فما كتبه (قدس سره) كان بالأصل كتاباً مدرسياً ابتدائياً يُراد به: التعريف بعلوم القرآن على مستوى الصف الأول والثاني للكلية المذكورة، ولم يكن بحثاً مستقلاً كي نتبين فيه مدى الشمول والعمق الذي يمكن أن يعبِّر فيه الشهيد الصدر (قدس سره) عن هذا البعد في أعماله التفسيرية، ولكن مع ذلك لم يخل هذا العمل من التجديد، بالإضافة إلى أسلوبه المبسّط والشيق في العرض. وهذه بعض النماذج:
النموذج الأول: في موضوع إعجاز القرآن، يعّرف الشهيد الصدر المعجزة تعريفاً فيه الكثير من الدقة والتجديد، حيث يقول بأنها: «أن يحدث [النبي] تغييراً في الكون، صغيراً أو كبيراً يتحدى به القوانين الطبيعية التي تثبت عن الطريق الحس والتجربة» ، وبذلك أدخل (قدس سره) في التعريف حتى الأعمال البسيطة التي يمكن للناس القيام بها وفق القوانين الطبيعية فيما لو تمكن النبي (صلى الله عليه واله وسلم) أن يوجدها خارقاً بها القوانين الطبيعية التي ثبتت بالحس والتجربة.
كما أنه بذلك يحدد ويفسّر (العادة) التي يستخدمها علماء القرآن في تفسيرهم للمعجزة ، بالقوانين الطبيعية التي تثبت بالحس والتجربة، فيضعها في إطار واضح لا لبس فيه، بحيث يتضح خروج مثل: السحر، أو الأعمال العلمية العظيمة التي توصل إليها العلم الحديث، فإنها قد تكون ـ في فترة زمنية ـ خارقة للعادة عن تعريف المعجزة.
النموذج الثاني: كما أنه يذكر الدليل على إعجاز القرآن مستخدماً طريقة المقارنة بين المضمون القرآني، والوضع الاجتماعي، والمرحلة التاريخية التي كان يعيشها النبي (صلى الله عليه واله وسلم)، وكذلك المقارنة بين شخصية النبي ومعلوماته الطبيعية والمضمون القرآني .
وهذا الدليل يمتاز بأنه: دليل يتوفر لكل إنسان فهمه، بخلاف الأدلة التي تعتمد على الأسلوب البلاغي، كما يتوفر إثباته في كل زمان.
وهذا النوع من الاستدلال تناوله مجموعة من الباحثين السابقين بشكل أو بآخر، إلاّ أنّ الشهيد الصدر يوجزه في ثلاث صفحات، ويذكر له أبعاداً ثلاثة، بحيث يمثل كل بُعد منه دليلاً مستقلاً في نفسه، وهو دليل يمكن استفادته من القرآن الكريم أيضاً.
النموذج الثالث: في بحث الآثار التي تركها القرآن الكريم على المجتمع الإنساني، يتحدث الشهيد الصدر عن عملية التحرير التي مارسها القرآن الكريم للعقول من الأوهام والخرافات، وللإرادة من الشهوات والغرائز، وللمجتمع الإنساني من عقيدة الطغيان والوثنية، بحديثٍ ينقل الإنسان إلى الواقع الفكري، والسياسي، والاجتماعي الذي كان يعيشه المجتمع من ناحية، والهدف الأساس للقرآن الكريم من ناحية أخرى .
النموذج الرابع: في بحث التمييـز بين المكي والمدني من الآيات، يرجح القول الذي يرى التمييز بينهما قائماً على أساس الفاصل الزمني قبل الهجرة وبعدها، في مقابل القولين الآخرين للتمييز، وهما على أساس المكان، أو المخاطب (أهل مكة وأهل المدينة).
ويؤكد أنّ التمييز له بُعد علمي، وليس مجرد اصطلاح؛ لأنه يساهم في تحقيق الهدف من وراء هذا التمييز، وهو معرفة تأريخ مسيرة الرسالة الإسلامية، والتعرّف على الناسخ والمنسوخ .
النموذج الخامس: في بحث تعريف التفسير، يميز (قدس سره) بين شكلين من التفسير: (تفسير اللفظ) و(تفسير المعنى) ويذكر أهمية التمييز بينهما، حيث إنه بذلك يمكن الجمع بين حقيقتين في القرآن الكريم، وهما: إنّ القرآن الكريم كتاب هداية، وأنّ بعض موضوعاته يستعصي فهمها على الذهن البشري، وإلى كل من الحقيقتين أشار القرآن الكريم .
النموذج السادس: ويترتب على التمييز السابق فهم الفرق بين مدلول كلمة (التفسير) وكلمة (التأويل) بعيداً عن المصطلحات العلمية، وإنما بحسب مدلولها القرآني .
ومن الواضح أنّ الكلمة عندما يكون لها استعمال قرآني، لا يكون البحث في مدلولها بحثاً لفظياً اصطلاحياً، بل بحثاً واقعياً مفهومياً.
النموذج السابع: في موضوع التفسير في عصر الرسول (صلى الله عليه واله وسلم) يشير (قدس سره) إلى عمل الرسول (صلى الله عليه واله وسلم) في هذا المجال، وانه قام بالتفسير على مستويين: مستوى عام، ومستوى خاص، بعد أن يذكر أنّ هذا العمل في عهده (صلى الله عليه واله وسلم) كان ضرورياً، على خلاف من يحاول أن يفسّر ظاهرة قلّة ما ورد من التفسير عن النبي (صلى الله عليه واله وسلم)؛ بأن التفسير لم يكن ضرورياً؛ لفهم العرب للقرآن في عصر الرسول (صلى الله عليه واله وسلم) .
وبذلك يثبت الشهيد الصدر مرجعية أهل البيت (عليهم السلام) الفكرية، ويفسّرها تاريخياً، حيث يذكر بأنّ التفسير الشامل الخاص إنّما كان للإمام علي (عليه السلام).
وبهذا يجمع الشهيد الصدر بين مسؤولية النبي (صلى الله عليه واله وسلم) في بيان القرآن الكريم، والحقيقة الخارجية لقلة ما ورد عنه (صلى الله عليه واله وسلم) في مجال التفسيـر، ودور أهل البيت (عليهم السلام) في المرجعية الفكرية.
المفردة الثانية: محاضرات التفسير الموضوعي
بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران، وإحساس الشهيد الصدر بالحاجة الملحّة إلى إيجاد تحرّك ثقافي وسياسي سريع وواضح في صفوف الحوزة العلمية في النجف الأشرف عمد (قدس سره) إلى تبديل درسه الفقهي على مستوى البحث الخارج في بعض أيام الأسبوع؛ ليقوم بإلقاء محاضرات في التفسير الموضوعي التي كان يمتلئ مسجد الشيخ الطوسي بالعلماء والطلبة للاستماع لها وتسجيلها، حيث تناول فيها: منهج التفسير الموضوعي، وسنن التاريخ، وعناصر المجتمع في القرآن الكريم .
ومما لاشك فيه أنّ هذه المحاضرات تحتاج إلى دراسة تفصيلية ومقارنة؛ لتبين التجديد فيها، والنظريات الجديدة التي استنبطها (قدس سره) من القرآن الكريم، والمنهج الذي اختطه لمواصلة هذا الطريق، حيث إن منهجه المتميـّز في التفسير الموضوعي يمكن أن ينسحب على كل الأعمال التفسيرية، وهذه بعض النماذج التي تؤشر إلى ذلك:
النموذج الأول: توضيح نظرية التفسير الموضوعي الذي يمثل تطوراً في منهج التفسير، وليس مجرّد جمع آيات قرآنية تتناول موضوعاً واحداً وتفسيرها، بل هو الخروج بنظرية قرآنية حول الموضوع تقوم على أساس استنطاق القرآن الكريم؛ لمعالجة الموضوعات والحوادث الخارجية، وهذا ما تناوله في المحاضرات الثلاث الأولى .
النموذج الثاني: إثبات انّ الظاهرة التاريخية تخضع للسنن والقوانين، وليست ظاهرة عفوية، أو مجرّد حوادث متناثرة ومتفرقة، بل هي ظاهرة تخضع للقوانين العلمية، وللنظام الكوني العام، دون أن يلغي دور الإرادة والاختيار فيها، بل جعلهما أحد القوانين والعلل المؤثرة في التاريخ، بل هما العامل الأهم .
النموذج الثالث: التمييز بين القوانين التاريخية والقوانين الطبيعية في موقف الدين منها، وانّ الأول منها من مهمة القرآن؛ ومن هنا نلاحظ أن القرآن الكريم تعرض لخصوص السنن التاريخية ولم يتعرض للسنن الفيزيائية والفسيولوجية وغيرها من السنن الطبيعية مع انّ القوانين التاريخية هي أيضاً قوانين طبيعية علمية تشترك مع بقية القوانين والسنن في هذه الخصيصة، ويوضح الشهيد الصدر هذه الفكرة في محاضراته الثالثة، فيذكر:
أنّ القرآن الكريم لما كان كتاب هداية، وهي ترتبط بالشريعة التي تمثل خط الهداية، وفي جانب آخر بالإنسان والمجتمع اللذين هما موضوع الهداية، كان من الطبيعي أن يتعرض للقوانين والسنن التي تتحكم في مسيرة المجتمع؛ حتى يمكن السعي لتوفير شروط تلك القوانين، عندما يريد القرآن الكريم إيجاد عملية التغيير الاجتماعي؛ لأنّ هذه القوانين تتأثر بالإرادة الإنسانية .
وبذلك يؤكد (قدس سره) انّ القرآن ليس كتاباً علمياً بحتاً، كما انه في الوقت نفسه تناول هذا الجانب من العلم؛ لارتباطه بالهدف التغييـري له.
النموذج الرابع: في المحاضرة الرابعة يعطي الشهيد الصدر مفهوماً جديداً لهلاك الأمة والمجتمع، يرتبط بفساد وهلاك البنية الاجتماعية والتركيبية له، وبذلك يخرج هذا المفهوم عن مدلوله الأولي، وهو الهلاك المادي لأفراد الجماعة أو المجتمع.
فالأجل والهلاك إنّما هو للعلاقات الاجتماعية التي تخضع للقوانين التاريخية، وهو قد يكون هلاكاً مادياً، وقد يكون هلاكاً معنوياً (انحراف، أو ضلالة، أو اضطراب وقلق وفساد في الأرض) .
النموذج الخامس: في المحاضرة الخامسة يبيـّن الشهيد الصدر خصائص التصور القرآني حول التاريخ ومسيرته، ويلخصها في ثلاثة نقاط:
الأولى: الاطراد والسنّة والقانون الذي يربط الظواهر التاريخية بعضها ببعض، ويحقق أهدافها بتحقيق شروطها.
الثانية: الربانية في الظاهرة التاريخية، وهي لا تعنـي الغيبية في مقابل الموضوعية والعلمية: «فهو يقرر أولا، ويؤمن بوجود روابط وعلاقات بين الحوادث التاريخية، إلاّ انّ هذه الروابط والعلاقات بين الحوادث التاريخية هي في الحقيقة تعبيـر عن حكمة الله سبحانه وتعالى وحُسن تقديره وبنائه الكوني للساحة التاريخية» فلا يريد القرآن أن يتجه باتجاه التفسيـر الإلهي في التاريخ، ولكنه يريد أن يؤكد أنّ هذه السنن ليست خارجة عن قدرة الله سبحانه، بل هي تجسيد لقدرته.
الثالثة: تأثيـر الإرادة الإنسانية في مسيرة التاريخ، إذ إنّ البحث في السنن
التاريخية خلق وهماً عند كثير من الباحثيـن، وهو تصور التعارض بيـن حرية الإنسان واختياره، وسنن التاريخ وقوانينه .
النموذج السادس: تحديد المساحة التي تتحكم فيها السنن التاريخية، وتفسير طبيعة الظاهرة التاريخية التي تخضع لهذه السنن، وهي خصوص التي تحمل في طياتها علاقة حادثة بهدف، وتصبح الإرادة الإنسانية والفعل الإنساني جزءاً من الطبيعة النوعية لهذه الظاهرة. وبذلك تخرج ظواهر وحوادث تاريخية مهمة ومؤثرة في مجرى الأحداث، كظاهرة الكوارث الطبيعية، أو موت شخص له موقع مهم في التاريخ في حالة استثنائية أو عادية .
المفردة الثالثة: خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء
إن كراس خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء هو أحد ستة كراسات عالج فيها الشهيد الصدر في خضم انتصار الثورة الإسلامية في إيران قضايا مهمة ولازالت مطروحة أمام الثورة الإسلامية، وقد عبّر (قدس سره) من خلال تلك الكراسات عن ذوبانه في الثورة الإسلامية والإمام الخميني وتقييمه لهذا الانتصار العظيم.
وفي تعريفه (قدس سره) لكراس خلافة الإنسان يقول: «توضيح لخطين ربانيين، يقوم على أساسهما مجتمع التوحيد، وتنسيق الحياة الاجتماعية للإنسان على الأرض» ، حيث يشتمل على تلخيص للتصور الإسلامي لركائز الخلافة الإنسانية، ومسيرتها، والرقابة التي وضعها الله سبحانه على هذه المسيرة وحركتها في الأرض وتصورات أساسية عن المجتمع في نظر الإسلام والقرآن الكريم وكيفية تطوره والعلاقات التي تتحكم فيه.
فيتناول فيه المراحل التاريخية أو الأدوار الثلاث، وهي: (الحضانة، الفطرة، الاختلاف)، التي مرَّ بها الإنسان ويفسرها مع بيان طبيعة التصميم الإلهي للإنسان ومسيرته في هذه المراحل، ودور الإنسان – الخليفة – فيها، بالإضافة إلى دور السماء الذي يمثل الرحمة، والرقابة، والكمال بالنسبة إلى الدور الإنساني الذي يتمثل بالأنبياء.
ويمكن القول: إنّ كل ما يتضمنه الكراس يمثل التجديد والعطاء، فبالرغم من أنّ بعض مفردات النظرية قد نجد ملامح لها في كتابات المفسرين، إلاّ أنّ مهمة الربط بين المفردات التي تمثل النظرية بكاملها هو الشيء الجديد فيها.
على أنّ بعض المفردات يبدو فيها العطاء واضحاً وجلياً، مثل: تفسيره لدور الحضانة، ودور الفطرة في المسيرة البشرية، وهذه بعض النماذج:
النموذج الأول: استنباطه لنظرية حكم الناس لأنفسهم وشرعية ممارسة الجماعة لحكم نفسها من مفهوم الإسلام الأساس لجعل الإنسان خليفة في الأرض، فانّ الخلافة – هذه – تعني أنّ الله تعالى قد أناب الجماعة البشرية في الحكم، وقيادة الكون، وإعماره اجتماعياً وطبيعياً. ويتفرع على هذا المفهوم:
أـ انتماء الجماعة إلى محور واحد، وهو الله (المستخلِف).
بـ قيام العلاقات الاجتماعية على أساس العبودية المخلصة لله، وتحرير الإنسان من العبوديات الأخرى.
جـتجسيد روح الأخوّة العامة في كل العلاقات الاجتماعية، ومحو كل ألوان الاستغلال والتسلّط.
دـ إن الحكم: هو استئمان ونيابة وأمانة ومسؤولية، فالإنسانية مستأمنة أن تحكم بالعدل والحكمة وليس بالهوى والرغبة، وبذلك تتميز الخلافة عن حكم الجماعة في المفهوم الغربي الذي يعني – في جوهره – النيابة والوكالة عن الإنسان نفسه .
النموذج الثاني: إن هدف الخلافة هو: الكمال والسير نحو المطلق في كماله، ولذلك فهي حركة دائبة نحو قيم الخير، والعدل، والقوة، وهي لا تتوقف؛ لأنها متجهة نحو الكمال المطلق الذي لا نهاية له، وليس هدفها هو التعبير عن الميول والرغبات، أو قوة الجماعة المادية، أو تكريم العرق والأصول القومية.
وبذلك يختلف هدف هذا الشكل من الحكم عن أي هدف لأشكال الحكم الأخرى؛ لأنه سوف لا يكون محدوداً وينتهي إلى الجمود والتوقف في عملية النمو كما في الأهداف الأخرى .
النموذج الثالث: التدخل الرباني من خلال خط الشهادة، وتصنيف الشهداء إلى أصناف ثلاثة، هم: الأنبياء، الربانيـون، الأحبـار.
وبذلك يستنبط من القرآن الكريم أنّ دور المرجعية الدينية (ولاية الفقيه) هو امتداد لدور الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) ومن خلال نظرية قرآنية متكاملة.
ثم الدور المشترك بين الأصناف الثلاثة من الشهداء، والفوارق الأساسية في الأدوار، والفارق الأساس بين النبي والإمام من جهة، والعلماء من جهة أخرى في العصمة، وأثر هذا الفارق في مسيـر خط الشهادة .
النموذج الرابع: النبوة والثورة على يـد الأنبياء متلازمان، وهما ضرورة تاريخية لتحقيق مجتمع التوحيد، حيث يقارن بين أساسين مختلفين في تاريخ الإنسان للثورة:
الأساس الأول: ما تزخر به قلوب المستضعفين والمضطهدين من المشاعر الشخصية المتقّدة بسبب ظلم الآخرين، واستهتارهم بحقوق الجماعة ومصالحها.
وإذا لاحظنا هذا الأساس بعمق، فسوف نجده يتعامل مع هذه المشاعر بروح رد الفعل، والانعكاس لنفس هذه المشاعر الشخصية والمادية التي خلقتها ظروف الاستغلال.
وبذلك لا تصبح الثورة ثورة على الاستغلال وجذوره، ومن أجل إعادة البشرية إلى مسيرتها الرشيدة، وإنما هي ثورة على تجسيد معيـّن للاستغلال من قبل المتضررين، ومن هنا كانت تغييـراً لواقع الاستغلال أكثر من كونها استئصالاً له.
الأساس الثاني: استئصال المشاعر التي خلقتها ظروف الاستغلال، واعتماد مشاعر أخرى أساساً للثورة، بل تطويرها على نحو تمثل الإحساس بالقيم الموضوعية للعدل والحق والقسط، والإيمان بعبودية الإنسان لله تعالى – والتي تحرره من كل عبودية – وبالكرامة الإنسانية.
وهذا الأساس لا يمكن أن يكون إلاّ من خلال ثورة الأنبياء؛ لأنه يتعالى على المشاعر والأحاسيس البشرية، وبدون ذلك فلابد أن يرتبط بالأوضاع النفسية التي خلقتها هذه الظروف وردود الفعل لها، وبذلك نفسّر ضرورة وجود الأنبياء في تاريخ الإنسان، وانّ الثورة الحقيقية لا يمكن أن تنفصل – بحال – عن الوحي والنبوة، وما لهما من امتداد في حياة الإنسان، كما انّ النبوة والرسالة لا يمكن أن تنفصل – بحال – عن الثورة الاجتماعية .
ويستمر (قدس سره) في هذا العطاء حتى يعطي تلخيصاً للتصور الإسلامي لركائز الخلافة الإنسانية، وسيرتها، والرقابة التي وضعها الله سبحانه وتعالى على هذه المسيرة وحركتها في الأرض، وتصورات أساسية عن المجتمع في نظر الإسلام والقرآن الكريم، وكيفية تطوره، والعلاقات التي تتحكّم فيه، وبذلك يضع (قدس سره) معالم النظرية للمجتمع الإنساني الذي وعد بتدوينها في كتاب (مجتمعنا).
المفردة الرابعة: الظهور القرآني والعرض على القرآن
إن بحث (الظهور القرآني) و(عرض الخبر على القرآن الكريم) أبحاث أصولية ترتبط بشكل خاص ومباشر بالقرآن الكريم من حيث كونه المصدر الرئيسي للتشريع الإسلامي، حيث وقع البحث في مدى حجية الظهور القرآني بعد الفراغ عن حجية الظهور بشكل عام؛ وذلك لاحتمال وجود التخصيص أو التخصص في الظهور القرآني؛ للشبهة التي أثارها الإخباريون حول حجيّة هذا الظهور، والتي حاولوا أن يستندوا فيها إلى روايات أهل البيت (عليهم السلام).
وكذلك بحث (عرض الخبر على الكتاب الكريم)؛ لمعرفة مدى صحته وحجيته عند الشك فيها، أو ترجيح حجيته على الخبر الآخر عند معارضته إيـّاه. وهناك أبحاث أخرى في هذا المجال .
أولاً ـ الظهور القرآنـي
يتناول الباحثون في بحث الظهور القرآني في علم أصول الفقه شمول دليل حجية الظهور للظهور القرآني أو عدمه، واحد الأدلة التي يستند إليها المشككون في حجية الظهور القرآني هو افتـراض شمول كلمة (التشابه) للظهور القرآني التي وردت في قوله تعالى «هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأويلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأويلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أولُواْ الألْبَابِ» ، حيث يتردد المعنى بين أكثر من احتمال، فيكون الردع عن اتباع المتشابه في الآية شاملاً للردع عن الأخذ بالظهور القرآني.
ولا يهمنا هنا البحث حول هذا الموضوع، حيث تناوله الشهيد الصدر بشكل مفصّل في بحوثه الأصولية، وإنّما ما يهمنا ذكره في تفسيره (للتشابه) الذي يمثل محاولة جديدة وأصيلة في فهم التشابه في القرآن الكريم، والذي ينسحب على النصف الأكبر من الآيات القرآنية، حيث وقع البحث بين علماء التفسير في انه ما المراد من التشابه؟
تناول علماء التفسير في هذا المجال الاحتمالات المختلفة، ولكن انطلاقاً من نقطة مركزية، هي انّ المقصود من التشابه هو التشابه المفهومي، أي: في دلالة اللفظ على المعنى، أو ما يفهم من اللفظ في دلالته على معناه، وكانت آخر محاولة للعلاّمة الطباطبائي ، التي كانت تتجه إلى افتـراض وجود مراتب للمعاني القرآنية تتشابه فيما بينها .
وأما الشهيد الصدر (قدس سره) فيفهم التشابه هنا ليس على مستوى المفهوم؛ لأنّ الألفاظ القرآنية مفهومة المعاني، وإنّما هو على مستوى المصاديق الخارجية، والجري والانطباق، ويستند في ذلك إلى قرينتين في الآية الكريمة نفسها، بالإضافة إلى تصريح القرآن الكريم نفسه، بأنّ آياته إنّما أُنزلت بياناً، وتبياناً، وهُدىً ، وبلسان عربي مبيـن ، وهذا لا ينسجم مع التشابه المفهومي في الآيات:
القرينة الأولى: وصف القرآن الكريم أصحاب الزيغ في القلوب في الآية نفسها، بأنهم يتبعون الآيات الـمتشابهة، ولا معنى لصدق مفهوم الإتباع مع التشابه المفهومي، والشك في المعنى؛ لأنّ من يأخذ أحد المدلولين في مقابل الآخر، لا يكون متبعاً للكلام، وإنما يكون متبعاً لحدسه وذوقه في اختيار المعنى.
القرينة الثانية: ورود كلمة التأويل (ابْتِغَاء تَأويلِهِ) فأنه لو أريد التشابه المفهومي، لكان معنى التأويل حمل الكلام على خلاف معناه، وهذا إنما يصدق في خصوص التشابه في الكلام الظاهر، وأما ما يتساوى معناه، فلا يكون حمله على أحد المعنيين تأويلاً؛ لأنّ الكلام لا يكون فيه ظهور حتى يكون الحمل على أحد المعنيين حملاً على خلاف الظاهر.
وأما لو أريد بالتشابه التشابه المصداقي، فيكون التأويل حينئذ الجري والتطبيق على المصاديق غير الحقيقية .
ثانياً – تعارض الأدلة
في بحث تعارض الأدلة تناول العلماء مجموعة من الروايات وردت بصدد تمييز الخبر الحجة من غيره، أو ترجيح أحد الخبرين على غيره من خلال عرضه على القرآن الكريم ومقارنته به.
وقد تركّز البحث في مدلول هذه الأخبار، والمقصود من المخالفة والموافقة فيها، وهل هي بصدد تناول الحجية أو شيء آخر؟
وقد بحث الشهيد الصدر (قدس سره) في تقريراته هذا الموضوع بشكل مفصّل، والجديد الذي نريد الإشارة إليه، هو التفسير الإجمالي العام الآخر الذي قدّمه (قدس سره) لهذه الأخبار، حيث أصبح لها مدلول له آثار مهمة في الفقه، وحجية الأحاديث تختلف إلى حد كبير عن المدلول الآخر المعروف ونتائجه الفقهية.
وبناءً على هذا الفهم فقد يمكن تفسير مفاد هذه الأخبار بنحو آخر لا يحتاج إلى جلّ الأبحاث المتقدمة، وهو أن يكون المراد من طرح ما يخالف القرآن، طرح ما يخالف الروح العامة له، وما لا تكون أشباهه ونظائره موجودة فيه.
ويكون المعنى: أنّ الدليل الظنّي إذا لم يكن منسجماً مع طبيعة تشريعات القرآن، ومزاج أحكامه العامة لم يكن حجة، وليس الـمراد – من الانسجام – الموافقة أو المخالفة المضمونية الحدية.
فمثلاً لو وردت رواية في ذم طائفة من الناس، وبيان خسّتهم في الخلق، أو انهم قسم من الجن، كما ورد ذلك في بعض الأقوام كالأكراد، قلنا: إنّ هذا مخالف مع الكتاب الذي يصرّح بوحدة البشرية جنساً وحسباً، فلابد من طرح هذه الأخبار حتى لو كانت موثقة سنداً .
ويدعم هذا الفهم الإجمالي للروايات والأخبار بعدة قرائن تاريخية، ونصوص عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، ومن الواضح أنّ هذا الفهم للنصوص له أثر كبير في الموقف تجاه الحالات المماثلة لما ذكره في الكتاب.
وهكذا روايات الراية أو القيام، فمثلاً تثار شبهة حول صحة إقامة الحكم الإسلامي في عصر الغيبة من خلال روايات عديدة، وبعضها صحيح السند تدل على أنّ كل راية قبل ظهور القائم هي راية ضلالة ، وقد تبدو صعوبات في معالجة مثل هذه الرواية بالأسلوب المعروف فقهياً ، إلاّ انه بناءً على هذا الفهم لروايات العرض يمكن بسهولة طرح مثل هذه الروايات؛ لمخالفتها روح القرآن العامة، وعدم وجود شبيه، أو نظير لها فيه، حيث إنّ الروح العامة له، هي الدعوة للوقوف في وجه الطغاة، والظالمين، والمستكبرين، ونصرة المستضعفين.
المحور الرابع: منهج التفسيـر عند الشهيد الصدر
إن العمل التفسيري للشهيد الصدر (قدس سره) كان محدوداً؛ ولذا لا يمكن الحكم بسهولة على منهجه في التفسيـر، ولكن مع ذلك يمكن التقاط بعض المعالم من خلال أعماله التفسيرية، وهي:
المعلَم الأول: التزام منهج الموضوعية، التي تعني: التحرك من الواقع القائم، والمشاكل والأسئلة التي تثيرها الأوضاع المعاشة والعرض على القرآن واستنطاقه لحل المشاكل القائمة في هذا الواقع، أو الجواب عن الأسئلة التي يطرحها – الواقع – من خلال ما يكتنفه من غموض في الموقف.
وقد صرَّح (قدس سره) بأهمية هذه الخصيصة في المنهج، حيث قال: «وخلافاً لذلك المفسّر الموضوعي، فانه لا يبدأ عمله من النص، بل من واقع الحياة، ويركّز نظره على موضوع من موضوعات الحياة العقائدية، أو الاجتماعية، أو الكونية، ويستوعب ما أثارته تجارب الفكر الإنساني حول ذلك الموضوع من مشاكل، وما قدّمه الفكر الإنساني من حلول، وما طرحه التطبيق التاريخي من أسئلة» .
ونحن وإن نختلف مع سيدنا الشهيد في جعل هذه الميزة من خصائص التفسير الموضوعي في مقابل المنهج التقليدي (التجزيئي)، بدليل نمو الأبحاث ذات البعد الموضوعي بهذا المعنى في ظل التفسير التجزيئي أيضاً، ويمكن معرفة ذلك بوضوح من خلال مراجعة الأبحاث التفسيرية في كل مرحلة من مراحل التاريخ الإسلامي، حيث نجدها تعالج المشكلات المختلفة المطروحة على الساحة الاجتماعية، والواقع الموضوعي، إلاّ أنّ ما ذكره خصيصة لابد أن يتصف بها المنهج الصحيح في التفسير، سواء كان موضوعياً أم تجزيئياً.
وعدم توفرها في بعض أبحاث التفسير التجزيئي لا يعني أنها ليست من الخصوصيات المطلوبة فيه، أو ان عدمها من الخصوصيات الملازمة له، بل يمكن أن يكون في التفسير التجزيئي نفس الخصوصية السابقة التي ذكرها، وذلك من خلال دراسة الظروف المماثلة القائمة وتطبيق الحكم القرآني فيها.
المعلَم الثاني: التفاعل مع التجربة الإنسانية، والمقصود منه طرح المشاكل التي أنتجتها التجربة، والحلول التي توصلت إليها، أو الأسئلة التي أثارتها على القرآن للتعرف على الموقف الصحيح منها، كما صرّح هو بذلك حين أشار لها ضمن الخصيصة الأولى، ولكن يمكن أن تذكر كخصيصة أخرى إلى جانب الخصيصة الأولى.
المعلَم الثالث: الإطار الإسلامي والعقائدي في فهم الظاهرة القرآنية، و انها ظاهرة مرتبطة بالوحي الإلهي، وانها جاءت لهداية الناس وإخراجهم من الظلمات إلى النور وبناء المجتمع الإنساني المتكامل؛ لتحقيق الحق والعدل، فانّ هذه الخلفية العقائدية وتفاصيلها لها أثر في فهم النصوص القرآنية.
وقد أشار (قدس سره) لها في علوم القرآن ، وأشار إلى بعض الآثار المهمة لهذه الخلفية.
المعلَم الرابع: الموضوعية، بمعنى تقسيم القرآن الكريم إلى موضوعات متعددة: عقائدية، واجتماعية، وكونية من أجل دراستها واستكشاف النظرية القرآنية حولها بعد ملاحظة جميع الآيات التي تعرض فيها القرآن الكريم إلى ذلك الموضوع، والتغلغل عمودياً في فهم القرآن من خلال استنباط النظرية الكلية منه.
وقد شرح (قدس سره) هذه الخصيصة؛ بصدد ترجيح منهج التفسير الموضوعي على منهج التفسير التجزيئي، واكد أهمية اكتشاف النظريات القرآنية في هذه المرحلة التاريخية من مسيرة الإنسان، والمواجهة الحضارية التي يخوضها الإسلام مع أعدائه.
وفيما يتعلق بالخصيصة نفسها، قال: «التفسير الموضوعي يطمح إلى ما هو أوسع من إبراز المدلولات التفصيلية للآياتِ القرآنية، لأنه يحاول أن يستحصل أوجه الارتباط بين هذه المدلولات التفصيلية، يحاول أن يصل إلى مركب نظري قرآني …… نظرية عن النبوة، نظرية عن المذهب الاقتصادي، نظرية عن سنن التاريخ» .
وفيما يتعلق بضرورة استنباط هذه النظريات يقول: «وقد يقال: ما الضرورة إلى تحصيل هذه النظريات الأساسية …… فإننا نجد بأن النبي (صلى الله عليه واله وسلم) لم يعط هذه النظريات على شكل نظريات محدودة وبصيغ عامة وإنما أعطى القرآن بهذا الترتيب للمسلمين؟!» .
وبصدد الجواب عن التساؤل، يذكر (قدس سره) الفرق بين عصر الرسول (صلى الله عليه واله وسلم) والعصر الحاضر، ويخلص إلى أنّ الصحابة إذا كانوا لم يتلقوا النظريات بصيغ عامة فقد تلقوها تلقياً إجمالياً إرتكازياً؛ باعتبار إطار التطبيق الذي كانوا يعيشون ضمنه في المجتمع الإسلامي الذي أقامه رسول الله (قدس سره).
أما عندما لا يوجد ذلك الإطار تكون الحاجة ملحة إلى إعطاء هذه النظريات، بالإضافة إلى وجود النظريات الحديثة التي يواجهها الإنسان المسلم هذا اليوم، من خلال تفاعله مع إنسان العالم الغربي، حيث يجد نفسه بحاجة لتحديد موقف الإسلام منها .
المعلَم الخامس: الموضوعية، بمعنى إتباع المنهج العلمي غير المتحيز والمتأثر بالمواقف المسبقة من الآيات والنص القرآني، وقد أشار الشهيد الصدر إلى هذه الخصوصية، حيث قال: «ليست الموضوعية بذلك المعنى -أي في مقابل التحيّز- من مزايا التفسير الموضوعي في مقابل التفسير التجزيئي، الموضوعية بذلك المعنى عبارة عن الأمانة في البحث، عبارة عن الاستقامة على جادة البحث…» .
كما يؤكد ذلك أيضاً في محاضرات علوم القرآن: «ولابد للمفسّر أن يحاول إلى أكبر درجة ممكنة الاندماج كلياً في القرآن عند تفسيره، ونقصد بالاندماج في القرآن: أن يدرس النص القرآني، ويستوحي معناه دون تقييد مسبق باتجاه معين غير مستوحى من القرآن نفسه، كما يصنع كثير من أصحاب المذاهب الذين يحاولون في تفسيرهم إخضاع النص القرآني لعقائدهم …… وهذا ليس تفسيراً، وإنّما هو محاولة توجيه للمذهب، وتوفيق بينه وبين النص القرآني» .
المعلَم السادس: إعطاء الأصالة للقرآن الكريم، والاحتـرام الكامل له، والانسجام مع الروح العامة له عند الأخذ بالنصوص الواردة عن المعصومين(عليهم السلام) .
المعلَم السابع: إنّ المنهج الصحيح في التفسير، هو الذي يهتم بالظهور البسيط والمعقّد معاً، الأمر الذي يؤكد ضرورة الاهتمام في تفسير الآية القرآنية بالآيات القرآنية الأخرى، التي تشكل قرينة على تفسيرها وتوضيحها؛ باعتبار أنّ القرآن الكريم يمثّل كلاماً واحداً متصلاً بعضه ببعض آخر، الأمر الذي يجعل الظهور القرآني ظهوراً معقداً يحتاج إلى الاجتهاد والجهد في تبيينه وتوضيحه.
وقد أشار (قدس سره) إلى هذه الخصوصية في المنهج التفسيري عندما تحدّث عن المعنى اللغوي للتفسيـر، وجعله شاملاً لموارد الظهور اللفظي، فقال: « ومن أجل التعرّف على موارد الظهور التي ينطبق عليها التفسير، والموارد التـي لا ينطبق عليها معنى التفسيـر نقسّم الظهور إلى قسميـن:
أحدهما: الظهور البسيط، وهو الظهور الواحد المستقل المنفصل عن سائر الظواهر الأخرى.
والآخر: الظهور المعقد، وهو الظهور المتكوّن نتيجة لمجموعة من الظهورات المتفاعلة…»
فهو يرى أنّ حقيقة التفسيـر، هي عملية المقارنة بين الظهورات المتعددة المتفاعلة للخروج منها بظهور متكامل، وليست عملية التفسير – الذي معناه الكشف – بيان معنى الظهور البسيط الذي يكون المعنى فيه مكشوفاً عادة، أو بياناً لمفهومه اللغوي.
المعلَم الثامن: الاهتمام (بتفسير المعنى) إلى جانب الاهتمام (بتفسير اللفظ)، فانّ التفسير الحقيقي، هو ذلك التفسير الذي يتناول ما يؤدي إليه المعنى من مصاديق، وما يجري عليه المعنى من حالات، لا مجرّد بيان المعنى اللغوي للفظ الذي هو تفسيـر للفظ.
وقد أشار إلى هذه الخصوصية عندما تحدث عن أهمية تقسيم التفسير إلى: تفسير اللفظ، وتفسير المعنى، وأهمية التمييز بينهما، وشرح ذلك عندما تحدّث عن كلمة (التأويل) وتفسيرها، والفرق بينها وبين كلمة (التفسير) .
ويبدو من خلال ذلك أنّ مهمة تفسير المعنى إن لم تكن أشد تعقيداً في الجهد، وأعظم فائدة من مهمة تفسير اللفظ فهي ليست بأقل من ذلك.
ومن هنا يصبح هذا اللون من الممارسة عملاً ضرورياً ومهماً في منهج التفسير.
المعلَم التاسع: وهذا الأمر لم يذكره (قدس سره) بشكل واضح رغم أهميته، وهو تفسير النص القرآني في إطار الهدف من نزول القرآن، وهو (الهداية والتغيير) والظروف الموضوعية التي أحاطت بنزوله، فانّ تفسير القرآن الكريم في هذا الإطار سيعرفنا على المنهج الذي اتبعه القرآن الكريم في عملية التغيير، ومدى الفرصة في تطبيق المنهج القرآني على الظروف الموضوعية التي تواجهنا في عملية التغيير دائماً.
فإن القرآن الكريم اتبع طريقة خاصة في عرض المفاهيم، وأسلوباً خاصاً في هذا العرض، حيث انه لم يتبع طريقة طرح المفاهيم على شكل موضوعات منفصلة بعضها عن البعض الآخر، فضلاً عن طريقة عرض النظريات المستخلصة عن تلك المفاهيم، وهذه الطريقة لها أهدافها التربوية والتغييرية التي أشرنا إليها في الحديث عـن الهدف من نزول القرآن .
وجاء منهج التفسير التجزيئي مواكباً لهذه الطريقة، وهذا الأسلوب في العرض، ومساهماً في تحقيق الهدف العام من القرآن الكريم.
وبذلك برز الدور الذي يمكن أن يقوم به التفسير التجزيئي، الذي يواكب – في الحقيقة – الطريقة القرآنية في التغيير، مثلما كان يواكب القرآن عملية التغيير، ويحاول التفسير التجزيئي أن يبرز الخصائص المرتبطة بهذا الهدف التغييري، كالسياق المعنوي، والعلاقات التغييرية بين مجموعة المفاهيم التي يوضحها القرآن الكريم.
وحينئذ سوف تبرز أهمية الطريقة التي اتبعها القرآن الكريم في عرضه للمفاهيم والأفكار، والتي لابد لمنهج التفسير التجزيئي أن يهتم بإبرازها في مقابل منهج التفسير الموضوعي، فإننا نختلف مع سيدنا الشهيد الصدر في ترجيحه لمنهج التفسير الموضوعي على منهج التفسير التجزيئي بشكل مطلق، بل إنّ التفسير الموضوعي يتميز باستنباط النظرية القرآنية، والتفسير التجزيئي يتميـز بتجسيد منهج القرآن في طرح الأفكار المتعددة والمتداخلة، وإبراز العناصر المؤثرة في تحقيق هدف الهداية والتغيير.
إن ما تقدم يميـّز أعماله (قدس سره) التفسيرية من ناحية، كما يمكن التقاط بعضها من خلال تصوراته عن كيفية انعقاد الظهور في الكتاب والسنّة من ناحية أخرى.

السيد محمود الحكيم