الحلقة الأولى
لاحظ الدارسون لفكر الشهيد ان نظريته السياسية تتلخص في خطين ربّانيين يقوم على اساسهما مجتمع التوحيد وتنظيم الحياة الاجتماعية للانسان على الأرض وهما خطّا خلافة الانسان وشهادة الانبياء سلام الله عليهم اجمعين.
اما خط الخلافة فيستقرئه من قوله تعالى (واذ قال ربّك للملائكة أنّي جاعل في الأرض خليفة، قالوا اتجعل فيها من يُفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك، قال إنّي اعلم ما لا تعلمون…) وبموجب هذا النص المبارك يكون الله تعالى قد شرّف الانسان ـ ممثلاً وقتذاك بآدم ـ بخلافته على الارض، وبهذه الخلافة استحق ان تسجد له الملائكة وتدين له بالطاعة كل قوى الكون المنظورة وغير المنظورة.
وتحمّل الانسان الخليفة وديعة الله وامانته ـ يوم قبل اعباء هذه الخلافة ـ كما يبدو من قوله تعالى (انّا عرضنا الامانة على السماوات والارض والجبال فأبين ان يحملنها منها وحملها الانسان انّه كان ظلوماً جهولا)، فمعنى استخلاف الله للانسان استخلافه على كلّ الارض وما فيها من اشياء تعود اليه والله هو ربّ الارض وخيراتها وربّ الانسان والحيوان وسائر الموجودات الكونية..
من هنا كانت الخلافة في القرآن الكريم اساساً للحكم، وكان الحكم بين الناس متفرعاً عنها (يا داود انّا جعلناك خليفة في الأرض فأحكم بين الناس بالحق) ولما كانت الجماعة البشرية هي التي منحت ـ ممثلة بآدم (ع) ـ هذه الخلافة فهي اذن المكلفة برعاية الكون وتدبير امر الانسان والسير بالبشرية في الطريق المرسوم للخلافة الربانية، وهذا بعينه مفهوم الاسلام الاساسي عن الخلافة وهو انّ الله سبحانه وتعالى اناب الجماعة البشرية في الحكم وقيادة الكون واعماره اجتماعياً وطبيعياً وعملية النيابة هذه تعني:
انتماء الجماعة البشرية الى محور واحد وهو المستخلِف، اي الله سبحانه وتعالى الذي استخلفها على الارض بدلاً من كل الانتماءات الاخرى، والايمان بسيد واحد ومالك واحد للكون وكلّ ما فيه، وهذا هو التوحيد الخالص الذي قام على اساسه الاسلام..
اقامة العلاقات الاجتماعية على اساس العبودية المخلصة لله تعالى وتحرير الانسان من سائر الوان العبوديات الاخرى كالاستغلال والجهل والطاغوت.
تجسيد روح الاخوّة العامة في كل العلاقات الاجتماعية بعد محو الوان الاستغلال والتسلط ليعيش البشر اخوة متساوين كأسنان المشط لا يفضل احد على آخر عند الله الاّ بالعمل الصالح (وان ليس للانسان الاّ ما سعى).
الحلقة الثانية
اشرنا في الحلقة السابقة الى انّ النظرية السياسية عند شهيدنا الغالي تتلخص في خطين ربّانيين هما خطا خلافة الانسان وشهادة الانبياء.. والآن نكمل الحديث عن ماذا تعنيه (عملية النيابة) بمعنى استخلاف الانسان.
مما لاشك فيه انّ الخلافة استئمان ورعايتها تعني الاحساس بالمسؤولية وأداء لواجب مفترض (انّ العهد كان مسؤولاً).. هذه المسؤولية الالهية لها بعدان، البعد الاول هو ارتباطها بمودعها الله تبارك وتعالى، والبشرية انما تمارس هذه المسؤولية بوصفها خليفة عن الله، ولهذا فهي غير مخولة ان تحكم بهواها او باجتهادها المنفصل عن توجيه الله تعالى، لأنّ هذا يتنافى مع طبيعة الاستخلاف، وبهذا تتميز خلافة الجماعة بمفهومها القرآني والاسلامي عن حكم الجماعة في الانظمة الديمقراطية الغربية لأن الجماعة في هذه الاخيرة هي صاحبة السيادة ولا تنوب عن الله ممارستها هذه.
اما بعدها الثاني فهو ارتباط هذه المسؤولية بخط الشهادة الذي يمثله شهيد ربّاني يحمل الى الناس هدى الله ويعمل من اجل تحصينهم من الانحراف وهو الخط الذي اشار اليه القرآن الكريم في قوله (قلنا اهبطوا منها جميعاً فإمّا يأتينّكم مني هدىً فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون) وبمقدار ما تكون البشرية ملتصقة بهذا الخط الرسالي، توفق في مسيرتها الاستخلافية، والاّ فهي متروكة لحرية منفلتة ليس لها حدود واضحة المعالم..
وعلى ذلك فانّ الخلافة الربّانية للبشرية وفقاً لركائزها الاربعة التي تطرقنا اليها بايجاز تقضي بطبيعتها على كلّ العوائق المصطنعة والقيود التي تجمّد الطاقات البشرية وتهدر امكانات الانسان لتصبح فرص النمو الحقيقية متوفرة له وصولاً الى تحقيق تلك القيم التي يؤمن بتوحيدها جميعاً في ذات الله عزّوجلّ الذي استخلفه واسترعاه امر الكون، فصفات الله تعالى واخلاقه من العدل والعلم والقدرة والرحمة بالمستضعفين والانتقام من الجبارين والجور الذي لا حدّ له، هي مؤشرات للسلوك في مجتمع الخلافة واهداف الانسان الخليفة، فقد جاء في الحديث الشريف «تشبهوا بأخلاق الله»، ولما كانت هذه القيم الالهية مطلقة وغير محدودة، وكان الانسان كائناً محدوداً، فمن الطبيعي ان تتجسد عملية تحقيق تلك القيم انسانياً في حركة مستمرة نحو المطلق وسير حثيث الى الله تعالى، وكلما استطاع الانسان ان يتصاعد في تحقيق تلك المثل يكون قد اقترب اكثر نحو الله في مسيرته الطويلة التي لا تنتهي الاّ بانتهاء شوط الخلافة على الارض.
عماد حسن